Powered By Blogger

الأربعاء، 27 أبريل 2011

هذا أم ذاك ... ؟؟ روبرت كروفت كوك

" ما أبدع أن يكون لديك نقود كثيرة ! "
كانت السيدة شو تفكر فى ذلك و هى تجلس وراء عربة الشاى الفضية الجميلة و العريقة ، إن كل ما حولها يوحى بالذوق الرفيع الذى يدعمه مال وفير فى البنك ، من الظلم طبعا أن نصفها بالسوقية ، و لكنها لم تكن تخشى إظهار سرورها بممتلكاتها العظيمة.
قالت للشاب الأرستقراطى الذى يجلس متحفظا على كرسيه أمامها :
- كم يسعدنى يا عزيزى أنك أحببت اللوحة ، إن زوجى اشتراها من أجلى فى الأسبوع الماضى ، لقد كنت دوما أتوق لامتلاك لوحة للفنان بروجيل.
قال الشاب :
- إنها رائعة .. أنت محظوظة يا سيدتى !
ابتسمت السيدة شو و رفعت حاجبيها الرقيقيين بحركة فاتنة ، و ظلت يداها ممتدتين كما لو كانت نموذجين من الشمع تعرضان خواتم جميلة .. إنها لا تحب التحرك القلق الشائع بين الناس العاديين ، فهى لا تسوى شعرها أو ترتب فستانها أو تلعب بالكلب الصغير أو تعبث بأقداح الشاى ، إنها تعرف قيمة الهدوء..
قالت : - تقول محظوظة ؟ أنا لا أؤمن بالحظ .. إنها مسألة اختيار !
لم يتحدث الشاب بشيىء و إن بدا عليه عدم الاقتناع ، غير أنه أطرق برأسه فى تشجيع صامت.
و واصلت السيدة شو :
- حسنا كان ذا فيما يتعلق بحالتى على الأقل ..
قال الشاب و هو لا يكاد يخفى حسده :
- هل تقصدين أنك اخترت أن تكونى غنية ؟
- يمكنك أن تقول عنى ذلك ، فمنذ خمسة عشر عاما ، كنت تلميذة غريرة فى المدرسة ..
و تقفت برهة ربما كى تعطيه فرصة للتعبير عن عدم اقتناعه ، و لكنه كان مشغولا بعدّ السنين ، و توصل فى صمت إلى أنها لابد أنها رسبت فى المدرسة سنوات طويلة ...
واصلت السيدة شو حديثها :
- أنت تفهم بالطبع .. كنت أفكر دائما فى الألعاب و مثل هذه الأشياء ، و فجأة لا أدرى لماذا ، ربما نتيجة لسحر صحى طبيعى ، وقع فى حبى شابان صغيران .. !
ظل المستمع صامتا كأنه آلى على نفسه ألا يقول سيئا إذا أعطته الفرصة ، و تذرع بالصبر رغم أنه كان يود لو استطاع تغيير الحديث إلى مجرى أفضل ، و لكنه لم يقل أيضا شيئا مما تود هى أن تسمعه ، و مضت السيدة شو قائلة :
- كان أحدهما طالب فن فقير لا يملك بنسا واحدا ، و لكنه شاب عاطفى ، حبوب ، ليست له مقدرة على الاحتفاظ بقرش .. ليست لديه أدنى فكرة عن عالم المصالح و ليس لديه أمل أن يتلقى مالا من أقاربه ، و لكنه أحبنى و أعتقد أننى أحببته .. و كان الآخر ابن رجل أعمال ناجح و لديه موهبة عظيمة فى تقدير قيمة الأشياء ، كانت أمامه حياة ناجحة ثرية و يمكن أن يقال أيضا أنه حسن الطلعة ، و أخشى أن أقول أنه أحبنى نفس حب طالب الفن.
قال الشاب يسايرها فى الحديث :
- يا له من اختيار صعب حقا !

- لقد كان كذلك بالفعل .. من ناحية هناك الحب الرومنتيكى فى شارع  فقير و أوانى شاى رخيصة فى كل مكان و زائرون مبهدلون و لكنه حب حقيقى و من ناحية أخرى هناك البيت الأنيق و الحياة السهلة و الأصدقاء اللطفاء و السفريات و الملابس و كل الأشياء التى يحتاجها المرء .. إذا كان ما يحتاجه المرء هو هذه الأشياء.
و اكتسب صوت السيدة شو رنّة من الحزن و هى تقول :
- عشت سنة كاملة فى عذاب عدم المقدرة على اتخاذ قرار ، لا أستطيع أن أفاضل بينهما و كان علىّ أن أختار أحدهما ، و أيا ما يكون قرارى سيكون هناك أسف ،

و  أخيرا ..
أجالت السيدة شو ناظريها فى الغرفة الأنيقة بما فيها من رياش و تحف و لوحات فنية و قالت :
- أخيرا .. قررت !
فى هذه اللحظة الدرامية من الحديث انفتح الباب و دخل رجل أنيق رمادى الشعر يرتدى حلة أنيقة كأنها إعلان ممتاز عن الترزى الذى أبدعها .. كم كان يناسب المكان كأنه نفسه تحفة بديعة ، و تقدم و قبل السيدة شو التى قدمته إلى الشاب بأنه زوجها ..
تلت ذلك محادثة جيدة طبيعية لمدة خمس عشرة دقيقة قال خلالها السيد شو أنه قابل اليوم "ديك روجرز القديم المسكين" و أقرضه بعض النقود.
قالت السيدة شو بدون اكتراث:
- هذا حسن منك ، يا عزيزى !
و انصرف السيد شو ..
تنهدت السيدة شو و قالت :
- ديك روجرز القديم المسكين .. لابد أنك خمنت من يكون ، إنه الرجل الآخر ، إن زوجى كان دائما يعامله بلطف !!
تمتم الشاب باختصار :
- هذا حسن !
و مضت السيدة تقول :
- لا أدرى كيف يأتى زوجى بالوقت لكى يهتم بكل أحد ، مع أنه مشغول جدا ، إن اللوحة التى يرسمها للأدميرال ..
- لوحة يرسمها ؟!
صاح بذلك الشاب الأنيق و هو يقفز معتدلا فى مقعده و قالت السيدة شو :
- نعم اللوحة التى يرسمها ، أوه ألم أخبرك لقد تزوجت الفنان بالطبع ، و الآن أعتقد أنه آن الأوان لتناول كأس من الشراب .. كيف حالك ؟
أومأ الشاب صامتا ، و بدا غير قادر إطلاقا على التعبير عن مشاعره.


المزيد عن كاتب القصة فضلا اتبع الرابط
ترجمة  محمد العزب موسى    مراجعة مختار السويفى

السبت، 23 أبريل 2011

الساذجة أنطون تشيكوف

الساذجه
للكاتب الروسي الكبير: أنطوان تشيكوف
ترجمة حصه العمار
 
طلبت - قبل بضعة أيام - من مربية أولادي ( جوليا فاسيليفنا ( موافاتي بغرفة المكتب.
  -
تفضلي بالجلوس ( جوليا فاسيليفنا ) - قلت لها - كيما نسوي مستحقاتك .
ويبدو أنك تلبسين رداء الرسمية والتعفف إذ أنك لم تطلبيها رسميا مني رغم حاجتك الماسة للمال ... حسنا ... كنا إذا قد اتفقنا على مبلغ ثلاثين روبلا في الشهر ...
  -
بل أربعين قالت باستحياء.
  -
كلا .. اتفاقنا كان على ثلاثين ، دونت ملاحظة بذلك . أدفع إلى المربيات ثلاثين روبلا عادة . لقد عملت هنا مدة شهرين لذا ..
  -
شهران وأيام خمسة قالت مصححة
  -
بل عملت لمدة شهرين بالتمام والكمال - قلت بإصرار - لقد دونت ملاحظة بذلك ، وهذا يعني أنك تستحقين ستين روبلا يخصم منها أجر تسعة أيام تعرفين تماما أنك لم تعملي شيئا لـ ( كوليا ) أيام الأحد وكنت تكتفين بالخروج به للنزهة ... هناك أيضا ثلاث إجازات و ...
ولم تعقب .. اكتفت المسكينة بالنظر إلى حاشية فستانها فيما كست محياها حمرة شديدة .. ما انبست ببنت شفة   .
  -ثلاث إجازات فلنخصم من ذلك إذا اثنى عشر روبلا ... كما وأن ( كوليا ) قد مرض فاستغرق ذلك ثلاثة أيام لم يتلق عبرها أي درس ... شغلت إبان ذلك
بـ ( تانيا ) فقط ، هناك أيضا أيام ثلاثة شعرت فيها بآلام في أسنانك ممضة أعفتك زوجتي خلالها من العمل بعد الظهر ... اثنا عشر وسبع يساوي تسعة عشر ، واطرحي ذلك فيتبقى بعد ذلك ... آ ... واحد وأربعون روبلا ... أصبح ذلك
واحمرت العين اليسرى ( لجوليا فاسيليفنا ) ثم ... غرقت بالدمع ، فيما تشنج ذقنها وارتعش ... وسعلت بشدة ثم مسحت أنفها ... إلا أنها ... لم تنبس بحرف
  - 
قبيل ليلة رأس السنه كسرت كوب شاي وصحن ، يخصم من ذلك روبلان رغم أن تكلفة الكوب هي في الواقع أكثر من ذلك إذ إنه كان ضمن تركة قيمة ... لا يهم ليست تلك هي أولى ما منيت به من خسائر ... بعد ذلك ونتيجة لإهمالك صعد ) كوليا ) شجرة فتمزق معطفه ، يخصم من المجموع عشرة روبلات ... كما وأن الخادمة قد سرقت - بسبب لامبالاتك حذاء ( فانيا ) ينبغي أن تفتحي عينيك جيدا ... أن تتوخي الحذر والحيطة فنحن ندفع لك ثمن ذلك ... حسنا نطرح من كل ذلك خمسة روبلات وإني قد أعطيتك عشرة روبلات يوم العاشر من يناير
  -
لم يحدث ذلك همست ( جوليا فاسيليفنا (
  -
بلى دونت ملاحظة بذلك قلت بإصرار
  -
حسنا وإذا أجابت بنبرات كسيرة .
-
فإذا ما خصمنا سبعة وعشرين من واحد وأربعين فسيتبقى لك أربعة عشر روبلا
وغرقت بالدموع حينها كلتا عينيها فيما ظهر العرق على أنفها الصغير الجميل ... يا للبنية المسكينة
  -
لم أحصل على مال سوى مرة واحدة
  -
قالت بصوت راعش متهدج النبرات - وكان ذلك من زوجتك . ماتجاوز ما استلمته ثلاث روبلات ... لا أكثر سيدي
  -
حقا أرأيت لم أدون ملاحظة بذلك - سأخصم من الأربعة عشر روبلا ثلاثة فيتبقى لك أحد عشر روبلا
ودفع إليها بالمبلغ فتناولته بأصابع مرتجفة ثم دسته في جيبها .
- شكرا قالت هامسة .
  -
ولماذا هذه الـ ( شكرا ) سألتها
  -
للمبلغ الذي دفعته لي .
- لكنك تعرفين أني قد غششتك ... أني قد سرقتك ونهبت مالك فلماذا شكرتني
  -
في أماكن أخرى لم يكونوا ليدفعوا لي شيئا البتة
-
لم يمنحوك على الإطلاق شيئا ، زال العجب إذا لقد دبرت هذا المقلب كي ألقنك درسا في المحافظة على حقوقك ، سأعطيك الآن مستحقاتك كاملة ... ثمانون روبلا ... لقد وضعتها في هذا الظرف مسبقا ...
لكن - تساءلت مشدوها - أيعقل ذلك أن يتسم إنسان بكل ذلك الضعف والاستسلام لماذا لم تعترضي لم كل ذلك الصمت الرهيب ... أيعقل أن يوجد في هذا العالم النابض بالظلم والأحقاد والشراسة إنسان بلا أنياب أو مخالب إنسان في سذاجتك وخضوعك.
وابتسمت في ذل وانكسار فقرأت في ملامحها " ذاك ممكن " واعتذرت منها مجددا عما سببته لها من ألم وإحراج ، إذ إن الدرس كان قاسيا حقا قبل أن أسلمها الظرف الذي يحوي أجرها ... ثمانون روبلا تناولتها بين مكذبة ومصدقة ... وتلعثمت وهي تكرر الشكر ... المرة تلو المرة ثم غادرت المكان وأنا أتأملها وسيل من جراحات الإنسان المعذب في أرجاء غابة الظلم ينداح في أوردتي وهمست لنفسي :
-
حقا ما أسهل سحق الضعفاء في هذا العالم.

المزيد عن أنطون تشيكوف فضلا اتبع الرابط

الجمعة، 22 أبريل 2011

البيت الملعون أميل جابوريو

الفيكونت ب .. شاب مرح حسن المعشر كان يعيش فى سلام متمتعا بدخل سنوى يبلغ 30 ألف جنيه ، و فجأة لسوء حظه ، مات عمه .. هذا العم كان رجلا يكره إنفاق النقود ، و لذلك  فقد ترك ثروة تقدر بمليونى جنيه لابن أخيه الفيكونت الشاب.
عندما كان الفيكونت يدرس أوراق التركة وجد أن من بينها بيتا فى شارع النصر (رى ديلا فيكتوار) يبلغ مجموع إيجاره السنوى بعد خصم العوائد 82 ألف فرنك.
فكر الفيكونت الكريم فى نفسه قائلا : هذا كثير جدا ، إن المرحوم عمى كان رجلا قاسيا .. إن الإيجارات مرتفعة للغاية ، لا ينبغى لإنسان يحمل لقبا عظيما مثلى أن يتصرف كلص ، سأبدأ من الغد فى تخفيض الأجرة ، إن السكان سوف يسعدون و يباركوننى !
و بهذا الغرض النبيل فى ذهنه استدعى الفيكونت على الفور بواب المنزل الذى حاء فى الحال و انحنى أمام المالك الجديد ..
قال الفيكونت :
- برنارد ، يا صديقى ، اذهب على الفور و أخبر السكان أننى خفضت لهم الأجرة بمقدار الثلث !
وقعت الكلمة غير المألوفة "خفضت " كقالب من الطوب فوق رأس برنارد ، و لكنه سرعان ما استرد أنفاسه معللا نفسه بأنه أخطأ السمع أو أخطأ الفهم و تمتم :
- خفضت الإيجار ؟ إن سيدى لابد أنه يمزح ، لا شك أنك فكرت فى رفع الإيجار ؟!
أجاب الفيكونت :
- إننى لا أمزح ، إننى جاد تماما يا صديقى أكرر "خفضت" .. أى قللت الإيجار.
دهش البواب إلى درجة أن أصابته دوخة و فقد كل مقدرة على التحكم فى نفسه ، فصاح
- لابد أنك يا سيدى لم تفكر فى الأمر جيدا ، سوف تلعن المساء الذى فكرت فيه فى هذا الأمر ، تخفيض إيجارات السكان ؟ لا أحد سمع بذلك من قبل ! يا سيدى ! إن السكان إذا سمعوا بذلك من يدرى ماذا يقولون ؟ و ماذا يقول الجيران فى المنطقة ؟
قاطعه الفيكونت :
- يا سيد برنارد ، يا صديقى ، أفضل أن أطاع عندما أصدر أمرا ، لقد سمعتنى جيدا .. اذهب !
خرج الرجل يترنح كالسكران ، كل أفكاره مضطربة ، هل كان ضحية حلم أو كابوس ؟ و هل هو حقا بيير برنارد أم ربما يكون شخصا آخر ؟
أخذ يردد فى نفسه : أخفض الإيجار ؟ أخفض الإيجار ؟ هذا لا يصدق ! لو كان السكان قد اشتكوا .. و لكنهم لم يشتكوا ، على العكس هم سكان طيبون يدفعون الإيجار بسهولة ، آه لو عرف عمه بذلك لكان قد قام من قبره ! هذا المالك الشاب يجب أن يمثل أمام مجلس عائلة، إن نهايته سيئة لا شك. من ذا الذى يعرف ما يمكن أن يفعل بعد ذلك ؟ ربما يكون قد تناول طعاما ثقيلا !
كان برنارد شاحبا كالأموات عندما وصل إلى مسكنه مما جعل زوجته و ابنته أماندا تصيحان فيه لدى رؤيته : سبحان الله ماذا حدث ؟ هل أصابك مكروه ؟
أجاب بصوت متغير : لا شيىء .. لا شيىء بالمرة !
قالت مدام برنارد : إنك تخدعنى .. إنك تخفى شيئا عنى ، لا تضللنى ، تحدث ! إننى قوية ، ماذا قال لك المالك الجديد ؟ هل يريد أن يتخلص منا ؟
- ليت الأمر كان يقتصر على ذلك .. تصورى ! لقد أبلغنى بشفتيه .. ابلغنى .. آه لن تصدقينى ...
- استمر من فضلك .. استمر..
- خذى أذن .. لقد أبلغنى .. بل أمرنى أن أبلغ كل السكان بأنه خفض الإيجار لكل منهم بمقدار الثلث ! هل سمعت ما قلته ؟ خفض الإيجار للسكان ..
لم تصبر زوجته و ابنته عليه حتى يتم حديثه .. و انفجرتا فى نوبة من الضحك الهستيرى .. و رددتا :
خفض الإيجار ؟ يا لها من نكتة ! يالك من رجل غريب ! خفض الإيجار للسكان !
فقد برنارد صوابه و طلب منهما أن تعاملاه باحترام فى مسكنه ، ثم فقدت الزوجة صوابها أيضا ، و نشب شجار بينهما ، و قالت الزوجة أن زوجها السيد برنارد لابد أنه تلقى هذا الأمر الغريب من قاع زجاجة نبيذ جرعها فى ركن البار المجاور !
و كاد الزوجان يتشابكان بالأيدى لو لم تقم المدموازيل أماندا بالتفريق بينهما ، و أخيرا قررت مدام برنارد ، التى لا تريد أن يظن بها الجنون ، أن تذهب بنفسها إلى منزل الفيكونت لتستطلع جلية الأمر.
و هناك تأكدت أن برنارد كان يتحدث الصواب ، فقد سمعت بأذنيها اللتين تعلق فيهما حلقين كبيرين الكلمة الغريبة يقولها المالك بلسانه ، و لكن لأنها امراءة فطنة أصرت على الحصول من المالك على الأمر كتابة فى " ورقة صغيرة " ، كى تعفى نفسها من المسئولية.
طيلة ذاك المساء ظل الأب و الزوجة و الابنة يتناقشون فى الأمر ، هل يجب عليهم أن يطيعوا ؟ أم يذهبوا لإبلاغ أقارب  ذلك الشاب المجنون ؟ و أخيرا قرروا أن يطيعوا فالأمر على أى حال لا يتعلق بهم.
فى الصباح التالى ارتدى برنارد أحسن معطف لديه و ذهب لإبلاغ السكان بالنبأ الكبير.
خلال الدقائق العشر التالية تحول البناء القائم فى شارع النصر إلى حالة من الفوضى يستحيل وصفها ، فالناس الذين ظلوا أربعين سنة يعيشون فى نفس المبنى و لايلمس الواحد منهم قبعته لتحية جاره ، تجمعوا الآن سويا و أخذوا يتناقشون بحماس :
- هل سمعت يا سيدى ؟
- إنه أمر شاذ !
- لم يسمع أحد بمثل ذلك من قبل !
- لقد خفض المالك إيجار مسكنى !
- بمقدار الثلث ، أليس كذلك ؟ أنا ايضا !
- شيىء مدهش ! لابد أن هناك خطأ ما !
و بالرغم مما قالته أسرة برنارد لهم ، و بالرغم من إطلاعهم على الورقة التى حصلت عليها الزوجة من المالك بتخفيض الإيجار ، قرر ثلاثة منهم أن يرسلوا خطابا إلى المالك يبلغونه فيه أن البواب قد فقد صوابه ، و لكن المالك رد مؤكدا ما قاله البواب ، 
و انتفت كل شبهة ، و بدأ الحديث الجاد :
- لماذا يخفض المالك الإيجار ؟
- أجل لماذا ؟
- عليه بكل تأكيد أن يعطى أسبابا قوية لمثل هذه الخطوة .. إن الرجل الذكى .. الرجل المدرك .. لايمكن أن يحرم نفسه من كمية كبيرة من المال لمجرد متعة حرمان النفس .. لابد أن هناك سببا ، لابد أن هناك ظروفا قوية مخيفة !
و أخذ كل واحد منهم يقول : لابد أن هناك شيئا ما وراء هذا كله !
و لكن ما هو هذا الشيىء ؟
راح الجميع يفكرون ما قد يكون السبب .. من أعلى البناء إلى أسفله أخذ كل ساكن يقدح فكره لحل هذا اللغز العويص ، و قال أحدهم لابد أن هذا الرجل ارتكب جريمة كبرى فى حق المجتمع و يحاول الآن التكفير عنها !
رد آخرون :
- هذه فكرة غير طيبة .. أن نعيش جنبا إلى جنب فى بيت مثل هذا النذل ، كلا ! ذلك غير ممكن ! حتى إذا كان آسفا لفعل خطأ ما ارتكبه فإن عليه أن يصلحه من نفس نوع الفعل ، أما أن يخفض الإيجار فكلا !
قال آخر مقترحا : ربما كان البيت آيلا للسقوط ؟
كان الجميع متأكدين من شيىء واحد .. أن البيت قديم جدا بالفعل ، و كاد أن ينهار عندما كانوا يحفرون للمجارى فى شهر مارس من العام الماضى.
و قال ساكن بالدور الخامس : ربما يكون السطح على وشك الانهيار !
و قال آخر : ربما كانت هناك آلة فى البدروم لإصدار عملة مزيفة .. أننى أسمع أصواتا غريبة أثناء الليل.
و كان رأى شخص آخر أن البيت ملىء بالجواسيس ، و أكد سيد فى الدور الأول أن المالك ينوى إحراق البيت للحصول على تعويض كبير من شركات التأمين.
ثم بدأت تحدث أشياء غريبة أثارت انتباههم جميعا ، ففى الطابق السادس و الأدوار العليا أخذت تسمع أصوات غير مألوفة لم يسمعوا بها من قبل و لا يجدون لها تفسيرا، و أكدت ممرضة السيدة العجوز فى الطابق الرابع أنها ذهبت مرة لتسرق بعض النبيذ من الكرار فالتقت بشبح المالك المتوفى و بيده الإيصال يطالبها بالأجرة !
و بدافع القلق تحولت مشاعرهم إلى خوف ، و تحول الخوف إلى ذعر ، و أقدم السيد ساكن الدور الأرضى ، و كانت لديه أشياء ثمينة يخشى عليها ، إلى إرسال مذكرة إلى البواب بأنه ينوى إخلاء الشقة.
و هرول برنارد لإبلاغ المالك فقال : حسنا ، دع ذلك الأحمق يغور !
و لكن فى اليوم التالى أقدم ساكن آخر فى الدور الثانى ، رغم أنه لم يكن لديه ما يخشى عليه ، على تقليد السيد ساكن الدور الأول ، و أعلن عزمه على العزال ، و تبعه سكان آخرون فى الدور الخامس.
و حدث بعد ذلك انهيار شامل ، فما كاد ينقضى الأسبوع حتى كان كل الساكنين قد أعطوا إشعارات بالإخلاء ، و كان كل منهم يتوقع كارثة تحل به فى الشقة ، فلم يعد فى استطاعتهم النوم ، و صاروا يقضون الليل جماعة يرهفون السمع لما قد يحدث فجأة ، أما الخدم المذعورون فقد أعلنوا أنهم سيتركون الخدمة فى هذا البيت الملعون ، و لكن البعض بقوا بعد أن رفع مستخدموهم أجرهم ثلاثة أضعاف.
أما برنارد البواب فقد حولته حمى الخوف إلى ما يشبه الخيال ، و لم تلبث أن ظهرت علي واجهة البيت ثلاث و عشرون يافطة تحمل كل منها كلمة "للإيجار" ..
و كان برنارد يأخذ الزائرين ليروا الشقق المختلفة و يقول لهم : لكم أن تختاروا ما تشاءون .. إن كل السكان عزلوا ، لا أحد يعرف لماذا بالضبط ، و لكن هناك أشياء قد حدثت ، أوه ، نعم  "أشياء" !! هناك غموض لا يعرف كنهه أحد ، إن المالك خفض الإيجار !!
كان راغبو الاستئجار يسمعون ذلك و يهربون و لا يعودون.
غادر ثلاثة و عشرون مستأجرا شققهم تاركين أثاثهم وراءهم و أصبح البيت خاليا من أسفل إلى أعلى ، و حتى الفئران لم تجد ما تقتات به فهربت من المبنى ، و ظل برنارد مقيما فى مسكنه و قد ابيضّ شعر رأسه من الخوف و صارت الأحلام المخيفة تزعجه أثناء الليل و الأصوات المبهمة تجعل شعر رأسه يقف ، و لم تكن مدام برنارد أحسن حالا ، أما ابنتهما أماندا - لكى تهرب من مسكن أبيها المخيف- وافقت على الزواج من حلاق لم تكن تتحمله من قبل !
و أخيرا استيقظ البواب ذات صباح بعد حلم مخيف أكثر من المعتاد و اتخذ قراره الحاسم ، ذهب إلى الفيكونت و سلمه مفاتيح المنزل ، و هرب بجلده.
و الآن يقف المبنى العتيق فى شارع النصر خاليا تماما ، يكسوه التراب و تنمو فى فنائه الحشائش ، لا أحد يجرؤ على الاقتراب منه ، و أصابت شهرته السيئة البيوت المجاورة من كل جانب فانخفضت قيمتها و بدأ سكانها يغادرون أيضا ..
تخفيض إيجار ؟ 
من ذا الذى سمع بمثل هذا الهراء ؟!!


ترجمة محمد العزب موسى   مراجعة مختار السويفى
لمعرفة المزيد عن الكاتب أميل جابوريو فضلا اتبع الرابط

الثلاثاء، 19 أبريل 2011

الطوق فيودور سولوجوب

ذات صباح فى شارع خال بأحد الضواحى .. كانت تسير سيدة و معها ابنها و هو فل فى الرابعة ، كان طفلا مبتهجا متورد الخدين و كانت السيدة صغيرة ترتدى ملابس أنيقة ، كانت تبتسم لفرط السعادة و هى تراقب ابنها باهتمام ، أما الولد فكان يلعب بالطوق ... طوق جديد كبير أصفر اللون .. يجرى وراءه و هو يضحك فى مرح و تبدو ركبتاه من بنطلونه القصير و يضرب الطوق بالعصا كل حين و آخر ، لم يكن من الضرورى بالطبع أن يرفع العصا إلى هذا العلو ، و لكن ذلك ما كان يفعله.
يا لها من سعادة ! .. منذ وقت قصير لم يكن لديه طوق ، و الآن ها هو يملكه ! .. و كل شيىء جميل !
مر رجل عجوز يرتدى ملابس مهلهلة ، و يداه خشنتان ، فانتحى جانبا إلى السور حتى تمر السيدة و ابنها ، و نظر الرجل العجوز إلى الولد بعينين كابيتين و هو يبتسم فى غباء.
فكر فى نفسه قائلا : إنه ابن أحد السادة.. طفل صغير لطيف، إنه  يمتع نفسه .. اب سادة حقا !
هناك شيىء لم يستطع أن يفهمه .. شيىء بدا فى غاية الغرابة بالنسبة له ، ها هو طفل ، و لكن الأطفال يشدون من شعورهم لأن أمهاتهم تخشين عليهم الفساد .. و هذه الأم لا تمنع ابنها من اللعب كما يريد .. إنها حسنة الهندام و غاية فى الجمال ، لابد أنها تعيش فى أمن و سلام.
و تذكر الرجل العجوز أنه عندما كان طفلا كان يحيا حياة الكلاب ، و لا تزال حياته مريرة إلى الآن رغم أنه لا يتعرض للضرب و الجوع كما كان فى طفولته ، فى تلك الأيام كان هناك جوع و برد و لكمات ، لم تكن هناك أطواق أو مثل تلك اللعب التى يلهو بها الأثرياء ، لقد قضى حياته كلها فى فقر و إهمال و مرارة ، ليس هناك شيىء يمكن أن يتذكره فيها .. لا بهجة واحدة !
ابتسم للكفل بفمه الأهتم و أحس أنه يحسده ، و لكنه تمتم " يا لها من تسلية غبية " و مع ذلك ظل يحسده و يغار منه ، و ذهب إلى المصنع الذى يعمل فيه من أيام طفولته حتى الشيخوخة.
و لكنه ظل يتذكر الولد الصغير و هو يجرى و يضحك و يطارد الطوق ، ظل طوال اليوم بين جعجعة آلات المصنع يفكر فى الولد و الطوق ، و فى الليل كان يحلم بهما.
و فى الصباح ظلت الأفكار مستمرة ، كان عمله يدويا آليا لا يتطلب أى تفكير ، لذلك استمرت يداه تقومان بالعمل كالمعتاد ، و لكن فمه الأهتم يبتسم و هو يتذكر الحلم ، و كان الجو ملبدا بالغبار و بالقرب من السقف تتحرك السيور بنعومة من عجلة إلى عجلة ، و غى جنبات المصنع ضجيج و ظلام ، و الناس يتحركون كالأشباح و تطغى على أصواتهم ضجة الآلات.
و تراءى للرجل العجوز أنه طفل صغير ، و أن أمه سيدة محترمة ، و أن لديه طوقا و عصا يلعب بهما ، يضرب الطوق بعصاه ، و يرتد حلة بيضاء تبرز منها ركبتاه العاريتان.
و ظل نفس الحلم يتكرر يوما بعد يوم أثناء العمل.
و عندما كان عائدا ذات مساء شاهد الرجل العجوز فى الطريق طوقا خشبيا كان يستخدم فى ربط برميل قديم ، كان طوقا سيئا و قذرا ، اهتز العجوز من شدة الفرح و قفزت الدموع إلى عينيه الكابيتين و دهمته رغبة مفاجئة لا شعورية ، فنظر حوله مستطلعا ثم انحنى و التقط الطوق بيديه المرتعشتين و عاد به إلى بيته و هو يبتسم و يشعر بالخجل.
لم يره أحد ، و لم يوجه إليه أحد أى سؤال ، فما شأن الناس بهذا المنظر : رجل عجوز مهلهل الثياب ، يحمل طوقا خشبيا قديما لا فائدة فيه لأحد .. من ذا الذى يهتم بملاحظة ذلك ؟
و لكنه حمله فى السر ، خائفا يبتسم ، لا يعرف لماذا التقطه و لماذا يأخذه معه .. إنه يشبه طوق الولد و لذلك أخذه.
و ظل الطوق ملقيا تحت سرير الرجل العجوز فى ركنه المزدحم عدة أيام ، أحيانا كان يخرجه من تحت السرير و ينظر له فيشعر براحة نفسية عميقة ، لقد تحقق له حلم سعادة الطفولة.
و ذات صباح دافىء صاف .. و الطيور تغرد بين فروع الشجر بمرح أكثر من المعتاد .. استيقظ الرجل العجوز مبكرا و أخذ طوقه ، و خرج إلى المدينة.
كان يكح و هو يشق طريقه بين الفروع و الأشجار العتيقة فى الغابة، لم يستطع أن يفهم لماذا كانت الأشجار صامتة على هذا النحو ، و كانت الروائح غريبة ، و الحشرات الطائرة تئز من حوله ، و الندى يشبه قصة خيالية ، و لم تكن هناك شابورة أو غبار ... و الظلام ينسحب بعيدا وراء الأشجار.
و انتزع الرجل العجوز فرعا جافا من أحدى الأشجار ، و وضعه فى الطوق.
كان الحقل يمتد أمامه لامعا و مستويا و قطرات الندى تلمع فوق الحشائش المقطوعة منذ أمد قصير .. و فجأة ضرب الرجل الطوق بعصاه و اندفع يجرى خلفه ، تدحرج الطوق بخفة فوق الحقل و صاح العجوز ضاحكا من فرط السعادة ، و جرى خلف الطوق مثلما كان يفعل الولد.
و تراءى له أنه عاد ولدا صغيرا مرة أخرى ، لطيفا سعيدا ، و أن أمه تتبعه و هى تراقبه بابتسامة حلوة ، و مثلما يحدث للطفل أيضا أحس بقشعريرة من البرد فى الغابة المعتمة فوق الحشائش النضرة.
اهتزت اللحية الشائبة فى الوجه المعروق ، و اندفعت الضحكات و الكحة معا من الفم الأهتم.
و تعود الرجل العجوز أن يأتى إلى الغابة كل صباح ليلعب بالطوق ، كان يخشى أحيانا أن يراه أحد و يضحك منه ، و ملأته هذه الفكرة بالخجل ، و لما كان الخجل يشبه الخوف لذلك اصطكت ركبتاه و شعر كأن رجليه لا تحملانه.
و لكن أحدا لم يره ، و لم يسمعه ، ولم يحدث شيىء ، و أخذ يلعب بالطوق ما شاء له اللعب ثم عاد مطمئنا إلى المدينة ، و هو سعيد يبتسم ..
و هكذا ظل يلهو بالطوق يوما بعد يوم دون أن يراه أحد أو يحدث شيىء ، و ذات صباح كثيف الندى أصابه البرد ، و لزم الفراش و مات.
و عندما كان يحتضر فى مستشفى المصنع بين أناس غرباء كان يبتسم فى سعادة ، مسرورا بفكرة أنه أيضا طفل يلهو و يضحك فوق الحشائش النضرة تحت الأشجار الظليلة و أمه الحبيبة تتبعه و تراقبه.

ترجمة محمد العزب موسى   مراجعة مختار السويفى
لمعرفة المزيد عن الكاتب الأصلى فيودور سولوجوب فضلا اتبع الرابط

الأحد، 17 أبريل 2011

حبيبها مكسيم جوركى

حبيبها     
مكسيم جوركى
حكاية حكاها لى أحد الأصدقاء ذات يوم:
عندما كنت أدرس فى موسكو كنت أعيش فى بيت صغير ، جارتى فيه فتاة غريبة ، كانت بولندية اسمها تريزا ، طويلة ، قوية ، سمراء ، لها حواجب ثقيلة و ملامح فظة ، كأنها قطعة من الحجر شذبت بفأس...
عيناها غبيتان ، و صوتها عميق ، و تتصرف كرجل يحاول أن يكسب قوت يومه .. كان جسمها ثقيلا و ملامحها قبيحة ، و كنا نسكن غرفتين متقابلتين فوق البناية ، و كنت حريصا على ألا أفتح باب غرفتى ما دامت هى فى غرفتها ، و أحيانا كنت ألتقى بها على السلم أو فى الفناء فتبتسم لى ابتسامة مريرة ، و كثيرا ما كنت أراها عائدة إلى بيتها و عيناها حمراوان و شعرها منكوش ،و فى مثل هذه المناسبات كانت تحملق فىّ قائلة " هاللو ... أيها الطالب " !
كانت ضحكتها الغبي تثير استيائى ، و فكرت مرارا أن أعزّل من البيت كى أتجنب رؤياها ، و لكن المكان كان لطيفا تستطيع أن ترى منه منظرا عاما للمدينة ، و الشارع هادىء و الإيجار مناسب فققرت البقاء.
و ذات صباح بعد أن أرتديت ملابسى استلقيت قليلا على السرير ، و وجدت باب الغرفة يفتح و ظهرت تريزا فى المدخل و قالت بصوتها العميق :
- هاللو أيها الطالب !
سألت :
- ماذا تريدين ؟
نظرت إليها ، كن على وجهها تعبير الخجل ، و هو شيىء لم ألحظه من قبل.
قالت : أيها الطالب ... أريد منك أن تسدى لى معروفا أرجوك لا تكسر بخاطرى.
لم أقل شيئا ، و استمرت هى قائلة :
- أريد أن تكتب خطابا لأحد معارفى فى الوطن.
فكرت فى نفسى قائلا : " ترى ماذا تريد هذه الشيطانة حقا ؟! " و قفزت من فوق السرير و جلست إلى المائدة و أخرجت الورق و الحبر و قلت :
- تعالى هنا ، اجلسى أمامى و أملى على ما تريدين أن تكتبيه.
دخلت مترددة ، و جلست بحذر قبالتى و صوبت إلى عينى نظرة عميقة ....
سألتها :
- حسنا ... إلى من أوجه الخطاب ؟
- إلى بولسيلوف كاشبوت الذى يعيش فى سوينزيانى على خط سكة حديد وارسو
- ماذا تريدين منى أن أكتب ؟ استمرى ...
أخذت تملى علىّ بكلمات متقطعة :
- عزيزى بولس ... حبيبى .. روحى ، فليحفظك الرب ! عزيزى .. لماذا لم تكتب منذ مدة طويلة لحمامتك الصغيرة تريزا التى تشعر بالحزن ؟
كدت أنفجر ضاحكا ، هذه "الحمامة الصغيرة الحزينة " يبلغ طولها ستة أقدام (حوالى 183 سم ) ، تتفجر صحة ، لها قبضتان قويتان و وجه أسود كما لو كانت هذه الحمامة قد استخدمت طوال حياتها فى تنظيف المداخن !
و لكنى تحكمت فى ملامح وجهى و سألتها : من هو بولسيلوف هذا ؟
ردت باندهاش كما لو كانت تستغرب أن لا يعرف أحد من يكون بولسيلوف ...
- تسأل عن بولس يا سيدى ؟ أننى سوف أتزوجه !
- تتزوجينه ؟!
- لماذا تستغرب هكذا أيها الطالب ؟ أليس من حق فتاة صغيرة مثلى أن يكون لها حبيب ؟
قلت : فتاة صغيرة ! يا لها من نكتة ! ربما ! كل شيىء جائز ، كم مضى عليك و أنت مخطوبة ؟
- عشر سنوات !
مضيت فى كتابة ما تمليه علىّ من عبارات الحب و الغزل و الرقة لدرجة أننى تمنيت أن أكون فى مكان بوليسلوف شريطة أن تأتى الرسالة من فتاة أخرى غير تريزا ..
أخيرا قالت لى تريزا و هى تبدو متأثرة للغاية :
- شكرا لك من صميم قلبى ، أيها الطالب هل تأمرنى بشيىء ؟
- كلا شكرا
- يمكننى أن أرفى لك جواربك و ملابسك ..
غاظنى ذلك بعض الشيىء ، و أكدت لها فى عبارة مقتضبة أننى لا أريد خدماتها ، و انصرفت.
مر أسبوعان ... و ذات مساء كنت أجلس بالقرب من النافذة أصفر و أفكر فيما يمكن أن أقوم به لأسلى نفسى ، كان الجو رهيبا فى الخارج و لم أجد فى نفسى رغبة فى الخروج ، و فجأة رأيت الباب يفتح ، كانت تريزا.
قالت : أيها الطالب .. هل أنت مشغول الآن ؟ يمكننى أن أبحث عن شخص آخر ....
- كلا ... ماذا تريدين ؟
- أريد أن تكتب لى خطابا آخر
- حسنا .. إلى بولس ؟
- كلا ... !
صحت :  - ماذا ؟؟!
- اعذرنى ، أيها الطالب أنا غبية ، أننى لو أوضح نفسى بما فيه الكفاية ، إن الخطاب لا يخصنى .. و إنما هو لأحد أصدقائى ، أحد معارفى ، إنه لا يستطيع الكتابة ، و له حبيبة ، مثلى !
نظرت إليها بحدة ، خفضت رأسها خجلا ، و يداها ترتجفان من شدة الآضطراب ..
تصورت أننى فهمت الموقف ، و قلت :
- اسمعى يا فتاتى ... إن كل ما أخبرتنى به عن نفسك و عن بوليسلوف و ما إلى ذلك .. محض خيال.. كنت تكذبين ، هذا مجرد مبرر لتأتى إلى هنا ، لا أريد أن أرى وجهك بعد ذلك ، أتفهمين ؟
بدا على وجهها الخوف و علته الحمرة ، و حاولت أن تقول شيئا فلم تستطع ، و بدات أشعر أننى أصدرت عليها حكما خاطئا ، هناك شيىء وراء هذا كله ، ترى ماذا يكون ؟
بدأت تتكلم :
- أيها الطالب ...
ثم أشاحت بوجهها و دارت على عقبيها و غادرت الغرفة.
شعرت فى قلبى بشعور غير مريح ، سمعتها تصفق بابها وراءها بشدة ، لقد كانت مغتاظة جدا ، و قررت أن أستدعيها للعودة ، كنت أشعر بالأسف لأجلها ، و سأكتب لها ما تريد.
ذهبت إلى غرفتها ، فوجدتها جالسة إلى المائدة ، و قد أخفت وجهها بين كفيها ..
قلت :
- يا فتاتى !  أنت ....
عندما أصل إلى هذه النقطة فى حكايتى أشعر دائما بشيىء يمس قلبى ، وجدت الفتاة تقفز و تأتى نحوى و عيناها تلتمعان و و ضعت ذراعيها فوق كتفى و أخذت تنشج كأن قلبها سوف يتقطع.
- ماذا ... يضيرك ... ان تكتب ... لى ... سطورا قليلة ؟ أوه ... أنت ... تبدو ... زميلا رقيق ! ... نعم ليس هناك بوليسلوف .... ولا .... تريزا .... كل ما هنالك ... هو أنا ... أنا فقط !
صحت مندهشا لكلامها :
- ماذا تقولين ؟ ليس هناك بولس إطلاقا ؟!
- لا
- و لا تريزا ؟!
- لا ... أنا فقط .. !
نظرت إليها باندهاش ، من المؤكد أن أحدنا مجنون ، قامت هى و ذهبت إلى المائدة ، و عادت بقصاصة من الورق ..
و قالت و هى تقدمها لى :
- خذ هذه هو الخطاب الذى كتبته لى ... أنت لا تريد أن تكتب من أجلى خطابا آخر ... آخرون ذوو قلوب رحيمة سوف يكتبون !
كانت تحمل فى يدها الخطاب الذى كتبته لها إلى بولسيلوف.
فقلت لها:
- اسمعى يا تريزا .. ماذا وراء هذا كله ؟ هل تريدين أن يكتب لك الناس ردودا على خطابات لم ترسليها ؟
- إلى من أرسلها ؟!
يأست من الحوار ، و أستدرت أريد الخروج ، و لكنها بدأت تتكلم :
- لا .. لا يوجد .. ليس هناك بولسيلوف .. و لكنى أريد أن يكون موجودا ... أعرف أننى لست مثل الأخريات .. أعرف أننى ... أننى ... و لكن هل يضر هذا أحدا إذا كتبت له ؟!
- ماذا تقصدين ؟ إلى من تكتبين ؟
- إلى بولسيلوف ... بالبع !
- و لكنك تقولين أن هذا الشخص ليس موجودا !
- أوه ، و ماذا يهم ذلك ؟ ليس هناك أحد ... و لكنى أتصور أن هناك بولسيلوف ، أننى أكتب إليه كما لو كان شخصا حقيقيا ، و هو يرد ، و أنا أكتب مرة أخرى ، و هو يرد ثانية .. و هكذا ... !
فهمت أخيرا .. و شعرت بالإثم و الخجل ، كما لو كنت أصبت بألم جسمانى ، إنها انسانة مسكينة لا تجد فى  العالم شخصا يبثها مودة .. لا أب ، و لا أم ، و لا أصدقاء ، و لا معارف ، لا أحد ! .. و لذلك فقد اخترعت هذه المسكينة رجلا لنفسها !
و استمرت تتحدث بصوتها العميق :
- هذا الخطاب الذى كتبته لى إلى بولسيلوف ، طلبت من شخص آخر أن يقرأه لى بصوت عالى ، كنت أستمع و أتصور أن بولسيلوف يعيش فعلا ، ثم طلبت ردا من بولس إلى تريزا .. أى لى .. أنا متأكدة أن بولسيلوف يعيش .. فى مكان ما .. لا أعرف أين ، و لكن بهذه الطريقة أستطيع أن أعيش ... يا للقسوة و الفظاعة أن يكون الأنسان وحيدا !
و منذ ذلك اليوم و بمعدل مرتين فى الأسبوع أخذت أكتب خطابات من تريزا إلى بولس ، و من بولس إلى تريزا ، كانت خطابات مشتعلة بالعواطف و خاصة الردود ، و كانت هو تستمع إلى الخطابات و أن أقرأها عليها و هى تبكى و تضحك ، كانت سعيدة للغاية ، و مقابل ذلك أخذت تعتنى بملابسى ، تصلح قمصانى و جواربى ،
و تنظف حذائى و قبعتى.
و بعد ثلاثة أشهر ألقى القبض عليها فى شبهة غير معروفة .. و دخلت السجن ، و لم أرها منذ ذلك الحين ، ربما تكون قد ماتت !

لمعرفة المزيد عن مكسيم جوركى اضغط الرابط
 ترجمة محمد العزب موسى   مراجعة مختار السويفى

السبت، 16 أبريل 2011

العندليب و الوردة أوسكار وايلد

العندليب والوردة    أوسكار وايلد


  The Nightingale and the Rose    

صاح التلميذُ في حُرقة : " قالت بأنها سوف ترقص معي إن أهديتها وردةً حمراء. ولكن في حديقتي كلّها لا يوجد وردٌ أحمر".
ومن عشّها الصغير في سنديانة الحديقة، سمعت العندليبُ شكوى الشاب، فعجبت لأمره وأخذت تراقبه من بين الأوراق.
حزُنَ الشاب واغرورقت عيناهُ بالدموع وهو يُكرّر صيحته: "لا ورود حمراء في حديقتي كلها".
ثم أخذ يتمتم في حُزنٍ شديد:
"
عجباً، لِمَ تُبنى السعادةُ على أمانيّ واهنة لا قيمة لها؟. لقد التهمتُ كلّ ما خطّهُ الحكماءُ في الكتب، وجمعتُ كلّ أسرار الفلسفة في عقلي، فلماذا تتسببُ وردةٌ حمراء في بؤسِ حياتي؟".
فقالت العندليبُ في حماس: " أخيراً وجدتُ العاشق الأصدق. لقد تغنّيتُ به ليلةً بعد ليلة، وقصصتُ على النجوم حكايته، رغم أني لم أعرفه، ولكنني الآن أراه أمامي بشعرهِ الداكن كلون زهرةِ الياقوت، وشفتيه الحمراوين كالوردة التي يبحث عنها. ولكن العذاب الذي يُكابده جعل وجهه يزداد شحوباً كالعاج الأصفر، حتى طغى حزنُهُ الشديد على سيمائه".

وهناك في البستان لا يزالُ التلميذ يتمتم ويقول: " يُقيم الأمير حفلةً راقصة مساء الغد، وستكون محبوبتي من ضمن الحضور. إن استطعتُ أن أجلب لها وردةً حمراء، سنرقصُ معاً حتى بزوغِ الفجر. إن استطعتُ أن أجلب لها وردةً حمراء، سأحتويها بين ذراعيّ، وتسندُ هي رأسها على كتفي في حنان، وتُعانق يدي يدها في شوقٍ كبير. ولكن لا ورود حمراء في حديقتي. لذا، سأبقى وحيداً، وتمضي هي تاركةً إياي وأشواقي غير مباليةٍ بي إلى أن يتحطم قلبي".

فأخذت العندليب تحدّث نفسها قائلة: " إنه بالتأكيد العاشقُ الأصدق؛ فما أتغنى به أنا يتجسّد في معاناته، وما أجده مُبهجاً، يجدهُ ألماً قاسياً. إن هذا الحب حتماً شيءٌ رائع. أعزّ وأغلى من جواهر الدنيا، فلا تستطيع اللآلئ شراءه، ولا هو مما يُشترى في الأسواق، ولا هو مما يكتنزه التجار في خزائنهم، ولا يُمكن أن يُقاس أو يوزن بموازين الذهب".

وتابع التلميذُ مناجاته: "سيعلو صوتُ القيثارة والكمان، وترقصُ حبيبتي على أنغامهما بخفّةٍ ورشاقةٍ دون أن تلامس قدماها الأرض، ويحيطُ بها المعجبون من كل جانب. ولكنها لن ترقص معي لأنني لم أحضر الوردة الحمراء. لن ترقص معي".
وقذف بجسده فوق العشب، ودفن وجهه بين كفيه ثم أخذ يبكي.
وتساءلت سحليةٌ خضراء كانت تمر بجانب الشاب: " لِمَ بكاؤه؟"
وأضافت فراشةٌ رفرفت في الهواء من بين خيوط الشمس الذهبية:" نعم، ما الذي يُبكيه؟"
وهمست زهرةٌ من زهور الربيع لجارتها: " ما يُبكيه؟"
أجابتهم العندليب وفي صوتها نبرةُ حزنٍ واضحة: " إنه يبكي من أجل وردةٍ حمراء"
فصاحوا جميعا في صوتٍ واحد: " من أجل وردةٍ حمراء!! يا لهُ من أمرٍ مضحك"
وكانت السحلية الخضراء ممن لا يؤمنون بأقدار الحياة ونواميسها فيسخرون منها، فأطلقت ضحكة استهزاءٍ عالية.
أما العندليب فقد أدركت معاناة الشاب، فبقيت هادئة في السنديانة تفكر في لغز الحب. وفجأةً، نشرت جناحيها السمراوين وحلّقت كالطيف في الفضاء عابرةً البستان.

وفي وسط الروض بين الأعشاب، كانت شجرةُ وردٍ جميلة طارت إليها العندليب فور رؤيتها، واستقرّت على غصنها المزهر وقالت: " امنحيني وردةً حمراء، وسوف أغني لكِ أجمل أغنياتي".
ولكن الشجرة هزّت رأسها قائلةً: "ورودي بيضاء كزبدِ البحر، وأكثر بياضاً من الثلج فوق جبال الجليد. اذهبي إلى أختي التي تنبُت حول الساعة الشمسية القديمة، فقد تجدين مطلبك عندها".

وحلّقت العندليب من فورها إلى الشجرة قرب الساعة الشمسية القديمة، وقالت لها: "امنحيني وردةً حمراء، وسوف أغني لكِ أجمل أغنياتي".
ولكن الشجرة هزّت رأسها قائلة: " ورودي صفراء كشعر حوريةٍ تتربع عرش الكهرمان، وأكثر اصفراراً من زهرةِ النرجس قبل أن تقتلعها المناجل. اذهبي إلى أختي التي تنبُت تحت نافذة حجرة التلميذ، فقد تجدين مطلبك عندها".

حلّقت العندليب فوراً إلى شجرة الورد التي تنبُت تحت نافذة حجرة التلميذ، وقالت لها: " امنحيني وردةً حمراء، وسوف أغني لكِ أجمل أغنياتي".
ولكن الشجرة هزّت رأسها قائلة: "ورودي حمراء كأقدام اليمام، وأكثر احمراراً من شعاب المرجان التي تتماوج وتتماوج عند كهوف المحيط. ولكن الشتاء قد جمّد عروقي، والصقيعُ قطّع براعمي، والعاصفة حطّمت أغصاني، وقد لا أُنبتُ أية ورودٍ هذا العام".
فقالت العندليب متوسلة: " كل ما أريده هو وردة واحدة فقط. أما من طريقةٍ للحصول عليها؟"
فأجابت الشجرة: " هناك وسيلةٌ واحدة، ولكنها فظيعةٌ جدا حتى أنني لا أجرؤ على قولها".
فقالت العندليب في لهفة: " أرجوكِ أخبريني. ولن أخاف سماعها".
أطرقت الشجرة ثم قالت: "إن كنتِ تريدين وردةً حمراء، فيجب عليكِ أن تخلقيها بألحانك تحت ضوء القمر، وتلوّنيها بدماء قلبك. عليكِ أن تغني لي بينما تدفعين بصدرك نحو شوكتي. تغنين لي طوال الليل إلى أن تنفذ الشوكة إلى قلبك، وينتقل دمك عبر الشوكة إلى عروقي".
فصاحت العندليب: "الموت ثمنٌ باهظٌ لشراء وردةٍ حمراء، والحياةُ عزيزةٌ على كل نفس. إنه لمن البهجة والسعادة أن نجلس في الغابة الخضراء، ونتطلع إلى بهاء الشمس في مركبها الذهبي، والقمر في مركبه اللؤلؤي. كم هي زكيةٌ رائحة النباتات البريّة، وكم جميلةٌ هي أشجار الزهر الأزرق في الوديان. ولكن يبقى الحب أغلى من الحياة، فماذا قد يساوي قلبُ طيرٍ مقارنةً بقلب إنسان؟".
ثم نشرت العندليب جناحيها السمراوين وحلّقت في الفضاء كطيفٍ عابر، ماضية نحو البستان.
وهناك فوق العشب ما يزال التلميذ مستلقياً كما تركته، ودموع عينه لم تجف في مقلتيه الجميلتين بعد.
وصاحت العندليب : "كن سعيداً، ستحصل على الوردةِ الحمراء. سوف أخلقها بألحاني تحت ضوء القمر، وألونها بدمي. وكل ما أطلبه منك بالمقابل هو أن تبقى العاشق الأصدق. فالحب أكثر حكمةً من بحور الفلسفة، رغم حكمتها، وأقوى من القوة نفسها، رغم شدتها. هذا الحب جناحاهُ وجسده ملوّنة بلون اللهب. شفتاه كالعسل في حلاوته، وأنفاسه كالبخور في عطره".

نظر الشاب إلى الأعلى مصغياً إلى حديث العندليب، ولكنه لم يفهم ما قالته، فهو لا يفهم إلا ما يُدوّن في الكتب.
أما السنديانة فقد استوعبت كلام العندليب، وحزنت أشدّ الحزن فرقّ قلبها وخشعت جوارحها، لأنها كانت شديدة التعلّق بالعندليب التي اتخذت لها عشاً بين غصونها.
وهمست قائلة: "هلاّ غنيتِ لي لآخر مرة. سوف أفتقدكِ كثيراً عندما ترحلين".
وأخذت العندليب تغني للسنديانة، فكان صوتها كخريرِ ماءٍ ينسكب من وعاءٍ فضي.

وعندما انتهت العندليب من الغناء، نهض الشاب وأخرج من جيبه دفتراً صغيرا وقلم رصاص، ثم أخذ يمشي في البستان ويكلم نفسه: "إن لهذه العندليب أسلوبا رائعا في الغناء لا يمكن إنكاره، إضافةً إلى صوتها الشجيّ. ولكنني أشك في أن لديها إحساس مثلنا. أعتقد أنها كباقي أرباب الفن، يملكون الأسلوب المتميز، ويفتقرون إلى الصدق في المشاعر؛ فهي لن تضحي بنفسها من أجل الآخرين. لا تفكّر إلا في الغناء والألحان، والجميع يعلم أن الفنانين أنانيون. ومع هذا، يجب أن أعترف بأن صوتها يحمل من الجمال الشيء الكثير. وإنه لمن دواعي الأسف أن لا يكون لهذا الصوت أي معنى أو فائدة تُرجى".

ثم عاد إلى غرفته واستلقى على سريره الصغير، وبدأ يفكر في حبيبته، ثم غاب في سباتٍ عميق. وعندما أضاء القمرُ السماء، طارت العندليب إلى شجرة الورد، وألصقت صدرها بشوكتها. أخذت العندليب تغني وتشدو طوال الليل، والشوكة تنفذ إلى صدرها، بينما استرخى القمر الهادئ في إصغاءٍ شديد لغناء العندليب. واستمرّت العندليب في الغناء بصوتها الشجي الذي خالطه مزيجٌ من الفرح والألم، والشوكةُ تتابع طريقها نحو قلبها حتى بدأت تنزف بشدة.

كان أول ما غنته العندليب أغنية عن ميلاد الحب في قلب صبي وفتاة. فبدأت الشجرة تُنبت وردةً رائعة الجمال، بتلة بعد بتلة، مع كل أغنيةٍ تتبع أغنية. كانت الوردة شاحبةً في بادئ الأمر، كالضباب الذي يعلو النهر، أو كلون السماء في أول الصبح، وكانت فضيةً كأجنحة الفجر. كانت كظلِ وردةٍ في مرآةٍ فضية، أو كظلِ وردةٍ في حوض ماء.

وفجأة، صاحت الشجرة في العندليب آمرةً إياها أن تدفع بصدرها بقوةٍ أكبر: " ادفعي بقوة أيتها العندليب الصغيرة، أو يطلع علينا الصباح قبل أن تكتمل الوردة ". فقامت العندليب بدفع صدرها نحو الشوكة أكثر فأكثر، وارتفع صوتها بالغناء أعلى وأعلى، منشدةً أغنيةً عن مولد الهيام والصبابة في روحَي رجلٍ وعذراء.
وعندها ازداد تورّد الأوراق في الوردة، كتورّد وجه عريسٍ حين يقبّل شفتي عروسه.
ولكن الشوكة لم تصل إلى قلب العندليب بعد، فبقي قلبُ الوردةِ أبيض. شيءٌ واحدٌ يستطيع أن يُغرق قلب الوردة بالحمرة. هو دم قلبِ العندليب.
وصاحت الشجرة ثانيةً: " ادفعي بقوة أيتها العندليب الصغيرة، أو يطلع علينا الصباح قبل أن تكتمل الوردة ". لذا، دفعت العندليب صدرها نحو الشوكة بقوةٍ أكبر، حتى لامست قلبها، فأطلقت صيحة ألمٍ رهيبة لم يعهدها صوتها من قبل.
كان الألم قاسياً أيما قسوة، فازداد صوت العندليب اهتياجاً في أغنيةٍ عن الحب الخالد الذي لا يقهره الموت، بل يوصله إلى درجة الكمال، فلا يتلاشى عند حافة القبر.
وازداد احمرار الوردة الرائعة، فاحمرّ ما بين أوراقها، واحمرّ قلبها حتى أصبح كالياقوتة. أما صوت العندليب فازداد خفوتاً ووهناً، وبدأت العندليب تضرب بجناحيها. بعدها غطّت عينيها سحابةٌ رمادية، وأخذت أغنيتها تخفت أكثر فأكثر حتى أحسّت بغصّةٍ في حلقها.
وبعد قليل انفجرت العندليب بالغناء لآخر مرة، فاستمع القمرُ إلى أغنيتها وبقيَ في مكانه في السماء حتى نسيَ موعد الفجر القريب.
واستمعت الوردةُ الحمراء إلى أغنيتها، فارتعشت في نشوةٍ عارمة، ثم فتحت أوراقها لنسمات الصبح الباردة.
وحمل الصدى أغنية العندليب إلى كهوفه الوردية عند التلال، فأيقظ الرعاة من أحلامهم.
وشرعت الأغنية تعوم على امتداد النهر حتى أوصلها إلى البحر العظيم.
صرخت الشجرة في حماس: " انظري، انظري، لقد اكتملت الوردة".
ولكن العندليب لم تحرّك ساكناً ، ولم تجب. لقد فارقت الحياة والشوكة مغروسةٌ في قلبها.

عند الظهر، نهض التلميذ من نومه وفتح نافذة غرفته، فصاح في دهشة: " يا إلهي، يا لهذا الحظ الرائع!! ها هي وردةٌ حمراء. يا للروعة، لم أرَ مثلها في حياتي كلها. إنها جميلة جدا حتى أنني أكاد أجزم بأن لها اسماً علمياً طويلا". ثم انحنى نحو الشجرة وقطف الوردة.
ارتدى قبعته وخرج مسرعاً يقصد منزل الأستاذ، يملؤه الشوق والابتهاج، حاملاً الوردة في يده. وكانت ابنة الأستاذ جالسةً عند مدخل البيت تلفّ خيطاً حريرياً أزرق على بكرة، بينما كان كلبها مستلقياً على قدميها.
صاح التلميذ في حماسٍ شديد فور وصوله: " لقد قلتِ لي أنكِ سوف ترقصين معي إن أنا أحضرتُ لكِ وردةً حمراء. إنني أحمل معي الآن الوردة الأكثر حُمرةً في العالم. ستضعينها الليلة على فستانك قُرب قلبك، وبينما نحن نتراقص يا حبيبتي، ستحكي لكِ عن حبي وهيامي بك" .
ولكن الفتاة قطبت حاجبيها وأجابت ببرود: " أخشى ألاّ تناسب الوردة لون ثوبي. وقد أرسل لي ابن أخ حاجب الملك بعض الجواهر، والجميع يعلم أن الجواهر ثمنها أغلى بكثير من الورود" .
فصُعق ودارت به الأرض، ثم اشتعل غضباً فقال: " أتعلمين..أنتِ ناكرةٌ للجميل" .
وقذف بالوردة على الطريق حتى وقعت قرب قناةٍ لمجاري المياه، ثم سحقها إطار عربةٍ وشتّت أوراقها.
ثم صاحت الفتاة : " أأنا ناكرةٌ للجميل؟!. يا لك من فظ، ولكن قل لي، من تكون أنت؟ إنك مجرد تلميذ. لا أظن أنك تملك مشبكاً فضياً لحذائك مثل ابن أخ الحاجب" .
ثم نهضت عن مقعدها ودلفت إلى داخل المنزل.

عاد التلميذ أدراجه إلى منزله، وأخذ يكلم نفسه ويقول: " ما أسخف الحب ! ، ليس له حتى نصف فائدة المنطق؛ فلا يدلّ الحب على شيء، وإنما يحدثك دوماً بأشياء لن تحدث، ويجعلك تصدق أشياءً لا تُصدق. في الحقيقة، هذا الحب غير واقعي أو عملي، وهذا الزمن هو زمن الواقع. لقد أضعتُ وقتي، وأعتقد أنه يجدر بي أن أعود إلى الفلسفة وأقرأ قليلاً في ما وراء الطبيعة".
وهكذا عاد إلى غرفته وسحب من مكتبته كتاباً ضخماً يملؤه الغبار، وأخذ يقرأ 

المزيد عن أوسكار وايلد اضغط الرابط
القصة من ترجمة مى التلمسانى و مراجعة مختار السويفى

دبابيس قديمة جدا


* لطالما كنت أكره الأوتوبيسات التى تسافر عبر الدول ، أكره ضخامتها و أصواتها و ضجيجها و أكره تلويثها للبيئة و تلويثها لأعيننا بحجمها الضخم ، و لما عاد والدى من الحج مستقلا إحداها ، و تأخر عن موعده و أنا جالس فى انتظاره ، كنت أتمنى أن يظهر كل دقيقة أحد هذه الأتوبيسات الجميلة العزيزة علّه يكون حاملا أبى.

* لم أدهش لطلاقهما السريع ، فأن أول كلمة نطقها طفلهما الصغير كانت .... عايز

* افعل هذا من أجلى قالها صديقى
   و لكنى لا لأقبل هذا
   فقط من أجلى
   ولبيت متحاملا على نفسى

فى بيتى سمعت العبارة : افعل هذا من أجلى قالتها أمى
                             و لكنى لا لأقبل هذا
                              فقط من أجلى
                              ثرت و قلت لا يمكن أن أفعل شيئا ضد إرادتى و حريتى !

* لما قالت قريبتى لأخرى : مسكين عند "فكر" عن رجل ما ، حمدت الله أننى اشعر بالانفصال عن عالمهم و الغربة بينهم.

* قالت : احتاج لأحد يسمعنى.
 قلت لها : لدى أذنان كبيتان تغطيان نصف جمجمتى
 قالت : لا أثق فى نفسى ، لا أثق فى شكلى و جمالى و لا ...
 قلت لها : الثقة بالنفس اعتياد
فى المرة الثانية قالت : لا أثق فى نفسى ، .....
فى المرة الثالثة قال : لا أثق فى نفسى .....
قاطعتها فى المقابلة الرابعة : الثقة بالنفس اعتياد و كذلك الشكوى !

* قال لى صديقى الصريح : لماذا تطلب منى و من كل الناس دوما أن يفهموك ، و تصرخ لو لم تنل ما تريده ، هذه طفولة ، لكاذا لا تفهمنا أنت ؟
لما حجنى بمنطقه صرخت : هذه وقاحة !!

* لما نتاقشت مع أبى حول مشروعاتى للإجازة الصيفية - نقاشا حادا - ، و هاجم هو كل أفكارى ، صارحت نفسى بأنها هوة الأجيال التى طالما ابتعلت أسرا ، ذكرنى عقلى عندما كنت صغيرا و أهرع لأمسك ببراد الشاى و يمنعنى أبى و كيف كان شعورى وقتها ، و لكننى سرعان ما أزلت هذا الخاطر و تناسيته و تذكرت هوة الأجيال التى طالما ابتلعت أسر !!

الثلاثاء، 12 أبريل 2011

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

هلا سألت الخيل يا ابنة مالك                  إن كنت جاهلة بمــا لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة أنني                  أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ولقد ذكرتك والرماح نواهل                    مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها                    لمعت كبــارق ثغرك المتبسم
ومدجج كره الكماة نزاله                      لا ممعن هربــا ولا مستسلم



من معلقة عنترة بن شداد لمن لا يعلم
 

نوعية القادة التى نحتاجها لنهضة مصر

من كتاب أفراح الروح للأستاذ سيد قطب
نحن في حاجة ملحة إلى المتخصصين في كل فرع من فروع المعارف الإنسانية أولئك الذين يتخذون من معاملهم ومكاتبهم صوامع وأديرة !.. ويهبون حياتهم للفرع الذي تخصصوا فيه ، ولا بشعور التضحية فحسب ، بل بشعور التضحية فحسب ، بل بشعور اللذة كذلك !… شعور العابد الذي يهب روحه لإلهه وهو فرحان !..

ولكننا مع هذا يجب أن ندرك أن هؤلاء ليسوا هم اللذين يوجهون إلى الحياة ، أو يختارون للبشرية الطريق ؟..

إن الرواد كانوا دائما . وسيكونون هم أصحاب الطاقات الروحية الفائقة هؤلاء هم الذين يحملون الشعلة المقدسة التي تنصهر في حرارتها كل ذرات المعارف ، وتنكشف في ضوئها طريق الرحلة ، مزودة بكل هذه الجزئيات قوية بهذا الزاد ، وهي تغذ السير نحو الهدف السامي البعيد !.:
هؤلاء الرواد هم الذين يدركون ببصيرتهم تلك الوحدة الشاملة ، المتعددة المظاهر في : العلم ، والفن ، والعقيدة ، والعمل ، فلا يحقرون واحدا منها ولا يرفعونه فوق مستواه !.

الصغار وحدهم هم اللذين يعتقدون أن هناك تعارضا بين هذه القوى المتنوعة المظاهر ؛ فيحاربون العلم باسم الدين ، أو الدين باسم العلم …

ويحتقرون الفن باسم العمل ، أو الحيوية الدافعة باسم العقيدة المتصوفة !.. ذلك أنهم يدركون كل قوة من هذه القوى ، منعزلة عن مجموعة من القوى الأخرى الصادرة كلها من النبع الواحد ، ومن تلك القوة الكبرى المسيطرة على هذا الوجود !.. ولكن الرواد الكبار يدركون تلك الوحدة ، لأنهم متصلون بذلك النبع الأصيل ، ومنه يستمدون !…

إنهم قليلون .. قليلون في تاريخ البشرية .. بل نادرون ! ولكن منهم الكفاية ..: فالقوة المشرفة على هذا الكون ، هي التي تصوغهم ، تبعث بهم في الوقت المقدر المطلوب !.

الاثنين، 11 أبريل 2011

الجيش و الثورة ... ؟؟؟

يثور هذه الأيام جدل لا نهائى حول نوايا الجيش تجاه ثورة شعب مصر فى 25 يناير.
الجدل شيىء جميل ، لأنه يولد أفكارا ، يحيى موات الخواء الفكرى و البشرى الذى عشنا فيه تحت الحكم المجمد المسمى زعما استقرارا فيما سبق من عقود.
و لكن ثمة توجس ، و ارتياب يظهر على الساحة مبنى على تخمينات ، و افتراضات ، و أحاسيس.
و لما كنا قد تعلمنا أول ما عملنا فى التجارة و الإدارة أن من أهم مبادىء الإدارة السليمة لأى عمل تجارى هى الوضوح و التحديد و عدم ترك أى نقطة مبهمة تحت الزعم و الافتراض بأنها بديهية ، لذا أرى أننا يجب علينا أن ندقق فى ما يثار حول علاقة الجيش بالثورة من هذا المنطلق ، لأن الأمر جد خطير ، بل أزعم أنه أخطر ما مر بالثورة حتى الآن.
واقع الأمر و ظاهره بدأ من البيان الأول للجيش ، 
و الذى أعلن قبل الخطاب الأخير للرئيس السابق محمد حسنى مبارك و الذى لم يتنح فيه ، سبق هذا الخطاب البيان الأول للقوات المسلحة المصرية منذ عام 1973
و صدر البيان بتأييد مطالب الشعب المشروعة و انعقاد المجلس العسكرى الدائم حتى اتضاح الأمور.
هذا البيان الذى صدر و كان الرئيس السابق ما زال القائد الأعلى للقوات المسلحة يعنى ببساطة انحياز الجيش للشعب ضد القائد الأعلى ، و يعلم كل من دخل الجيش ، أن الولاء للقيادة و احترام الأقدمية المطلق هو أهم ما يميز النظام داخل الجيش ، و بالتالى فأن ما حدث أمر ثقيل على قادة الجيش ، و لكنه حدث.
الأمر الآخر أن الجيش فعل هذا بمحض إرادته ، لم يكن وقتها طرفا فى الثورة و لا ضدها ، بل تورد الكثير من المصادر مثل صحيفة الجارديان أن الرئيس السابق فى يوم 28 يناير طلب من الجيش وقت نزوله إخلاء ميدان التحرير على طريقة ميدان السلام السماوى بالصين ، و لكن الجيش رفض ذلك و تمسك بعدم التدخل ضد الشعب.
هذا كان الموقف المبدئى ، و لا أذكر أن أحدا يزعم بأن الجيش وقف موقفا سيئا عدا ما أثير عن حيادية الجيش غير المبررة فى يوم موقعة الجحش.
بعد ذلك تم خلع الرئيس تحت مسمى التنحى ، و يحس الكل بأن الأمر كان إجباريا ، و ليس تفضلا منه بل بضغط من الجيش ، استجابة لضغوط الثوار.
و بدأت مرحلة جديدة من الحكم الانتقالى العسكرى ، بدأ الجيش المرحلة بجدول زمنى محدد ، واضح و مفصل ، نظريا مطمئن.
قد يختلف البعض مع ما جاء فى تخطيط الجيش و يطلب أشياء أفضل ، و هذا حقه ،
و لكن أن يصير الخلاف عداوة ، أو مدعاة لتصيد الأخطاء أو التفسيرات الغريبة فهذا غريب .
الجيش انحاز للثورة بمحض أرادته ، و لم نكن نستطيع إجباره على ذلك ، لماذا يعتقد بعض "الثائرين بزيادة" أن الجيش يتآمر لإعادة مبارك ؟
طيب هو مشاه من الأول ليه ؟
و لماذا لم يحيله لمحاكمة فورية ؟ ، هذا تباطؤ و ليس تواطؤ ، اتخاذ القرار فى المؤسسة يختلف عن اتخاذ القرار فى منزلك ، قرارات و تحركات المؤسسات أبطأ من تحركات الأفراد و هذه حقيقة يعلمها كل الناس.
قد تكون هناك ضغوط خارجية لا ندرى عنها شيئا غير ما أعلن ، قد يكون هناك ما لا نفهمه بعد ، و لكن المعلن أغلبه مطمئن ، فلا اتهام سوى بدليل.
الاتهام بالتواطؤ ،  تأييس الناس من الجيش هو أخطر فكرة من أفكار الثورة المضادة ، و للأسف يديرها البعض بحسن نية.
لا نؤيد الجيش على بياض ، بل نؤيده عن وعى كما قال الأستاذ بلال فضل.
قد يكون ما يحدث ليس على مستوى توقعاتنا ، و لكن الطريق ما زال أمامنا ، فلنتظاهر كل جمعة دون اعتصام وقت حظر التجول ، هم لم يمانعوا ، و نضغط من أجل تفسيرات لما يحدث ، و لكن دون صدام.
لم يبق فى بلدنا مؤسسة قائمة بحق سوى الجيش و العدل ، إذا سقطت أحداهما ماذا سيبقى لنا ؟
فلنفرض أنى زعمت مثلا أن من اعتصموا من ضباط الجيش هم من الحرس الجمهورى الذى يدين بالولاء للرئيس السابق و أن نزولهم للتحرير مؤامرة على تظاهرات التحرير ، من يستطيع أن ينفى هذا أو يؤيده ؟
أو لنفرض أن الصورة المجاورة هى وثيقة سرية حصلت عليها من أحد مصادرى 

خلاصة الأمر ، فى وقت المحن و الضباب و انعدام الرؤية ، الحركة السريعة مضرة ، الحركة البطيئة الواثقة هى التحرك السليم ، فلنستمر فى الضغط و التظاهر طبقا للقواعد ، و لنحاول البحث عن قيادة توافقية نلتزم بها جميعا فى صورة كيان أو حزب ، لأن ما يظهر كتهديد فى الوقت الحالى وجود مليون جنرال فى جيش المتظاهرين و عشرين عسكرى فقط كما فى قصص تان تان.
و أدعو الله ألا نكون كمن قال فيهم أمير الشعراء شوقى فى مسرحيته مصرع كليوباترا
اسمع الشعب(ديون) كيف يوحون إليه                ملأ الجو هتافا بحياة قاتليه
أثر البهتان فيه وانطلى الزور عليه                   ياله من ببغاء عقله فى أذنيه
فلنحكم عقولنا فيما نسمع و نقرأ ، و لتكن عقولنا حاجزا بين آذاننا و عضلاتنا ! 
سد ودانك و شغل الكتلة الهلامية اللى فوقهم