Powered By Blogger

الجمعة، 6 مايو 2011

حلاق القرية عبد القادر المازنى

من كتاب صندوق الدنيا للأديب عبد القادر المازنى
 
    «وقعت لي هذه الحادثة في الريف منذ سنوات عديدة ، قبل أن تتغلغل المدنية إلى أنأى قراه ، وكنت أنا الجاني على نفسي فيها ، فقد عرض عليّ مضيفي أن استعمل موساه فأبيت ، وقلت ما دام للقرية حلاق فعلىّ به ، فحذرنى مضيفى وأنذرنى و وعظنى ، ولكنى ركبت رأسى وأصررت أن يجىء الحلاق.
    فجاء بعد ساعات يحمل ما ظننته في أول الأمر (مخلاة شعير) وسلم وقعد وشرع يحيينى و يحادثنى حتى شككت في أمره ، وأعتقدت أن الحلاق شخص آخر، وأن هذا الجالس أمامي ليس سوى (طلائعه).
ولما عيل صبري سألته عن حلاق القرية ، فأبتسم ومشط لحيته بكفه وأنبأني أن الحلاق (محسوبي) يعني نفسه ، فلعنته في سري ، وسألته متى ينوي أن يحلق لي لحيتي؟ 
أم لا بد أن يضرب بالرمل والحصى أولا ويحسب الطالع قبل أن يباشر العمل ؟
فلم يفهم وأولاني صدغا كث الشعر وقال :«هيا»
فظننته أصم وصحت به : (أ.. ر.. يد أن… أ.. ح. ل ق)
فسره صياحي جداً ، وضحك كثيراً ، وأقبل على (مخلاته) فأخرج منها مقصاً كبيراً جداً، فدنوت من أذنه وسألته : هل في القرية فيل؟
فقال: فيل ؟ لماذا ؟
فأشرت إلى المقص فضحك وقال: «هذا مقص حمير ولا مؤاخذة»
فقلت «ولماذا تجيئني بمقص الحمير؟ أحماراً تراني؟»
ويظهر أن معاشرة الحمير بلدت إحساسه فإنه لم يعتذر لي ولا عبئ بسؤالى شيئاً ، ثم أخرج موسى من طراز المقص و (مكنة) من هذا القبيل أيضاً ، فعجبت له لماذا يجىء إلي بكل أدوات الحمير؟ 
وسألته عن ذلك فقال: إن الله مع الصابرين.
وبعد أن أفرغ مخلاته كلها أنتقى أصغر الأدوات، وأصغرها أكبر ما رأيت في حياتي. ثم أقبل علي وقال: «تفضل»
قلت «ماذا تعني؟»
قال «اجلس على الأرض»
قلت «ولماذا بالله؟»
قال «ألا تريد أن تحلق؟»
قلت «ألا يمكن أن أحلق وأنا قاعد على الكرسي؟»
قال «وأنا؟»
قلت في سري: وأنت تذهب إلى جهنم ونعم المصير، وهبطت إلى الأرض كما أمر، ففتح موسىً كالمبرد.
فقلت: إن وجهي ليس حديداً يا هذا،
قال لا تخف إن شاء الله ، ولكني خفت بإذن الله ولا سيما حين شرع يقول : «بسم الله الرحمن الرحيم»» كأنما كنت خروفاً ، ويبصق في كفه ويشحذ الموسى على بطن راحته، ثم جذب رأسي، فذعرت ونفرت ووليت هاربا إلى أقصى الغرفة.
فقال: ماذا؟
قلت : «ماذا؟ أتريد أن تحلق لي بمبرد، ومن غير صابون؟»
قال : «ماذا يخيفك؟»
قلت : «يخيفني؟ لقد دعوتك لتحلق لي لحيتي لا لتبرد لي شعرها.
قال « يا افندي لا تخف» ، ثم قرأ من الكتاب الكريم «فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى» إلى آخر الآية الشريفة ، وأظنه أراد أن يرقينى بها فيا لها من حلاقة لا تكون إلا برقية !
وأسلمت أمرى لله وعدت فقعدت أمامه ، فنهض على ركبتيه وتناول رأسى بين كفيه وأمال صدغى إليه ثم وضع ركبته على فخذى ولف ذراعه حول عنقى ، فصار فمى مدفوناً في صدره فصحت أو على الأصح جاهدت أريد الصياح لعل أحداً يسمعنى فينجدنى ، غير أن طيات ثوبه كانت في فمى ، أما رائحة الثوب فبحسب القارئ أن يعلم أنها أفقدتنى الوعى.
ولا أطيل على القارئ. 
فقد أهوى الرجل بموساه على وجهى فسلخ قطعة من جلدى فردنى الألم إلى الحياة ، وأتانى القوة الكافية للصراخ على الرغم من الكمامة ، ووثبت أريد الباب ولكنه كان على كبر سنه أسرع منى ، وما يدرينى لعله كان يتوقع ذلك ، وعسى أن يكون المران قد علمه أن يكون يقظا لأمثال هذه المحاورات ، فردني بقوة ساعده.
فتشهدت وتذكرت قول المتنبي:
وإذا لم يكن من الموت بد                 فمن العجز أن تموت جبانا
كلا.. سأسدل الستار على هذا المنظر الذي يقشعر منه جلدى على الرغم من كر السنين الطويلة.
ثم جاء هذا السفاح بطشت يغرق فيه كبش ، ووضعه تحت ذقنى وصب ماءه على وجهى وفي صدرى وعلى ظهرى ، ليغسل الدم الذكى الذي أراقه ، وأخرج من مخلاته (منشفة) هي بممسحة الأرض أشبه ، فاعتذرت وأخرجت منديلى وسبقته به إلى وجهى. فهي معركة لا تزال بجلدي منها ندوب وآثار.


للمزيد عن الأديب عبد القادر المازنى فضلا اتبع الرابط

هناك 10 تعليقات: