Powered By Blogger

الثلاثاء، 13 سبتمبر 2011

هل للرذائل أسباب اقتصادية ؟ حول الإصلاح الأخلاقى للمجتمع

مقال من كتاب الشيخ محمد الغزالى " الإسلام و الأوضاع الاقتصادية"
و هو واحد من سلسلة مقالات حول الإصلاح الأخلاقى و السلوكى المنشود لمجتمعنا.
المقال كما كتبه الشيخ رحمه الله:
" العقائد الدافعة إلى العمل الصالح و الخلق الفاضل ، هى لباب الدين ، و محور تعاليمه.
و غاية ما يصبو إليه الدين ، أن يجد الجو الملائم لغرس عقائده و ظهور آثارها من خلق و عمل.
فإذا ضمنّا هذا الجو الرحب ، فقد أمكن للدين أن يحقق رسالته.
و إلا فالدين لا يعدو أن يكون بضاعة تباع للناس فى بطون الكتب ، أو كلاما تنقله طائفة من الناس فى حلقات الوعظ ، و خطب المنابر لا يثمر غير التوجيه النظرى.
و يكون الدين حينئذ موجودا على هامش الحياة فقط.
و قد رأيت بعد تجارب عدة ، أننى لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة ، الجو الملائم لغرس العقائد العظيمة ، و الأعمال الصالحة ، و الأخلاق الفاضلة !!
إنه من العسير جدا أن تملأ قلب أنسان بالهدى ، إذا كانت معدته خالية أو أن تكسوه بلباس التقوى ، إذا كان بدنه عاريا.
إنه يجب أن يؤمّن على ضروراته التى تقيم أوده كانسان ، ثم ينتظر بعدئذ ، أن تستمسك فى نفسه مبادىء الإيمان.
كثيرا ما وجدتنى أعالج وعظ الناس فى بيئات صرعها الفقر و المرض و الجهل.
فكنت أحار .. ماذا أقول لهم ؟
هل أقبّح لهم الدنيا ، كما يظن أنه مفروض على علماء الدين ؟
إن الدنيا لن تكون أقبح مما عليه فى أعين هؤلاء التعساء.
و حاجتهم إلى من يعرفهم أركان الحياة ، أمسّ إلى حاجتهم إلى من يعرفهم أركان الإسلام.
و جمهورهم لا يدرى الأساليب الصحيحة ، للزراعة و الصناعة و التجارة فضلا عن أن يعرف كيف يعامل ربه و إخوانه و .. حكامه !
أعرفهم بالله عز و جل ؟ إن معرفة الله لا سبيل إليها إلا بعد معرفة النفس فإن من عرف نفسه عرف ربه.
و هؤلاء التعساء مذهولون عن أنفسهم ، تائهون عن حاضرهم.
إن الشعور بالهوان و الحرمان ، قد شلّ تفكيرهم، فأنى يعرفون ربهم ؟ أو يشعروا بما قدموا له.
إنهم أعجز من أن يقدموا الحساب عن يومهم ، فهيهات أن يأخذوا الأهبة الحقة للدار الآخرة ؟
أنا لا أنكر أن وراء حناياهم الضامرة ، قلوبا فيها إيمان ما ، و تديّن ما ، لكن قيمة هذا كله تافهة ، لا تجدى على أصحابها كثيرا ، فى الدنيا أو الآخرة.
و الدين الحق لا يؤدى رسالته فى هذا الجو الخانق ، و لا تثمر عقائده فى هذه البيئات العقيمة.
فلابد من التمهيد الاقتصادى الواسع ، و الإصلاح العمرانى الشامل ، إذا كنّا مخلصين حقا ، فى محاربة الرذائل و المعاصى و الجرائم باسم الدين ، أو راغبين حقا فى هداية الناس لرب العالمين.
أما أن نترك الظروف التى تلد الجريمة حتما ، تنمو و تتكاثر ، ثم نكتفى فى خدمة الدين بالنصائح المجردة ، و العواطف المفتعلة ، فهذا فى الحقيقة هو العبث المبين.
و لست -هنا- أنكر قيمة الوازع الأدبى ، أوأحاول بخس الضمير الإنساني حقه ، فقد توجد أحوال شديدة تقف الإنسان على شفا جرف هار و تطلق فيه غرائزه الدنيا ، 
و يتضافر الحرمان و الإغراء معا على سوق المرء إلى الجريمة سوقا عنيفا ، و مع ذلك يتراجع عنها ، و يستنكف مقارفتها ، و تنتصر مواهبه العليا آخر النزاع.
غير أن هذه الأحوال لا يجوز انتظارها من كافة البشر ، بل لا يجوز انتظارها أبدا على تطاول الأزمنة و اختلاف الأحوال من أنسان يضىء الإيمان قلبه ، مهما بلغ فضله ، و ربا علمه.
و خير لنا أن نتعرف الأمور من وقائع الدنيا ، و أن نقرر أن النسبة الكبرى من الرذائل تعود إلى واحد من الثالوث المتوطن فى أرجاء أمتنا من زمن بعيد ، ثالوث الفقر و الجهل و المرض ، أو إلى اثنين من هذا الثالوث البغيض ، أو إلى أفراده جميعا.
و أن زوال هذه الآفات الإنسانية ، يخفض نسبة الجرائم فى بلادنا 90 %
و نحن نعرف أن فى مصر آلافا من العلماء الذين ينتمون إلى الدين و ينبئون فى معاهده و مساجده ، و ينطلقون فى المدائن و القرى يبشرون و يخطبون.
فهل وصلنا - بعد هذا المجهود المادى و الأدبى الواسع - إلى درجة من الرقى و السلامة الاجتماعية ، كالتى وصلت لها بعض الدويلات الأوروبية مثل سويسرا مثلا ؟
كلا !
فشتان بين عدد الجرائم عندنا و عددها عندهم.
و ما أضخم القضايا التى تنظرها المحاكم عندنا ، من جنايات و جنح و مخالفات.
و العلة الأصلية فى هذا أن اختلال التوازن المادى و الأدبى ، مكّن لشياطين الإجرام أن تعمل و تنجح.
فكيف لا يتدخل الدين فى تغيير هذه الحال ، إن أراد لنفسه البقاء و لرسالته التحقيق ؟
بل كيف يستغل الدين لإبقاء هذه الحال المنكرة ؟ و هل معنى ذلك إلا أنه ينكر نفسه 
و يخفض رأسه و يحفر رمسه؟ "
انتهى المقال.
الكتاب من تأليف 1947 ، و المقال منقول من الطبعة الثامنة 1987.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق