Powered By Blogger

الاثنين، 27 فبراير 2012

ليلة طوارىء د. الأمير حسنى

       داعبت نسمة باردة وجهي قبل منتصف ليل هذه الليلة المعتدلة نسبيا من ليالي شهر عرف بالبرودة في بلادنا.. وكنت قد انتهيت على الفور من "عشاء محترم" استعدادا لليلة أخرى في طوارئ مستشفى وزارة الصحة الوحيدة لهذه المدينة الجديدة والتي أصبحت عاصمة جديدة لبلادنا يقطنها عدد لا باس به من أثرياء البلد وشخصياتها المعروفة.... داعبت أصابعي "باكو شاي العروسه" في يدي وانا أمنى نفسي بكوب شاى ساخن وأخطو داخل غرفة المدير المناوب لاستقبال الطوارئ بالمستشفى.

فجأة تبخرت كل أمنياتي بقضاء ليلة هادئة وبكوب الشاي الساخن مع أصوات ضجة قوية (أعرفها جيدا) ... ضجه تعني دائما وصول حالة تستدعي التحرك الفورى.
 اندفعت داخل الغرفة المجاورة لأجد زميلي و قد سبقني ولأجد رجلا طويلا مهيبا يملأ الشيب رأسه (وإن بدا لى في أواخر الخمسينات) ممددا على سرير الفحص.
وصلتني معلومات سريعة من مرافقيه على أنهم تعرضوا لحادث اعتداء على الطريق السريع تلقى الرجل علي إثره ضربات بكعب سلاح على رأسه.
فحصت رأس الرجل سريعا بحثا عن جروح قطعية أو كسر منخفض بالجمجمة فلم أجد 
و سمعته يتحدث بمصطلحات طبية عن بؤبؤ العين والأشعة المقطعية فانتبهت لملامح وجهه التي بدت مألوفة بالنسبة لي.... في هذه اللحظة انتبهت للمرافقين وهيئاتهم التي جعلتني أدرك أنني أمام شخصية مهمة.... 
كنت أعلم أن الناس مختلفين في الإعلام عن الحقيقة فضلا عن أن يكونوا في استقبال الطوارئ!! 
ولكن كلمات أحد الممرضين معي أوضحت لي الصورة دفعة واحدة ....وكانت مفاجأة..

   في أوائل العقد الماضي كنت قد هاجرت من مصر إلى احدى بلاد المهجر ، لم يكن الدافع ماديا أو تعليميا بقدر ماكان بحثا على بلد آخر أجد فيه كمية أقل من الفساد و الرشوة والقمع الذين انتشروا في بلادنا على كل المستويات...
  بعد عقد من الزمان أوائل العام الماضي لم أصدق عيني وأنا أرى الثورة تتفجر في بلادنا كالسيل الكاسح يطهر أرضنا من رجس سنوات الفساد....
 وكان القرار أني "لازم أنزل مصر" ورغم كل تحذيرات الأهل والأصدقاء أن الوقت غير مناسب لهذا القرار
جاء القدر ليرجح كفة أن مكاني قد أصبح في بلادي بين أهلي .......
اندفعت أفكار كثيرة في رأسي وأنا أدفع مع الممرضين "الترولي" من الاستقبال الى حجرة الأشعة المقطعية .
هل هي مؤامرة للقضاء على محاولة تنظيف البلد من فلول النظام السابق أم أنها حادث بلطجة عارض؟
كنا قد وصلنا لحجرة الأشعة فأخرجنا كل المرافقين وأشخاص أخر كثيرون كانو قد تبعونا..... طبيب الأشعة والفني وزميلي دخلوا غرفة التحكم ......
 فجأة انتبهت أني وحيد مع الرجل في حجرة الأشعة...... نظرت اليه وهو ممدد استعدادا للأشعة فانتابتني مشاعر مزيج من الغضب والأسى ....

 كان الرجل بالنسبة لي أحد رموز التيار الإسلامي التي تعمل على استكمال أهداف الثورة.....لم أكن أعرف عنه أكثر مما أعرف عن شخصيات أخرى تعمل في نفس الاتجاه ومرشحة لنفس الدور... ولكن في هذه اللحظة كان يمثل لي كل رجال أمتنا الذين يحاول النظام السابق وأدهم ووأد ثورتنا معهم ......
فجأة وجدت نفسي أنظر اليه وأقول له بدون وعى (احنا محتاجنكم)... وعلى الرغم من حالته الصحية وجدته ينظر الي و يبتسم و يقول (ماتخافش حنكمل للآخر).. لم أتمالك نفسي في تلك اللحظة فانحنيت عليه أحتضنه وأقبل لحيته البيضاء النابته.

بعد انتهاء الأشعة المقطعية كانت الضجة تزداد في هذا المشفى الهادئ عادة في تلك الأوقات...وكان القرار أنه يجب أن يبقى تحت الملاحظة حتى الصباح...
 كانت ليلة مليئة بالأحداث والأشخاص أيضا....
 رأيت فيها الكثير من أفراد الأمن والتحقيق خارج قسم الرعاية و التي قررنا أنا وزملائي أن تكون المتابعة بها حتى الصباح .......كنت لازلت مع زميلي أدير التحركات في المكان حيث إننا المناوبين لهذه الليلة.
كنت أشعر بمرورالوقت ان الموضوع أصبح شخصيا بالنسبة لي ولم يعد له علاقه بالعمل او بالشخصية العامة.........الشعور بالأسى والغضب مما يحدث جعلني أشعر ان إصابته هي محاولة للقضاء على أمل تنظيف البلد من عقود الفساد..
مع الوقت توافد استشاريين ومتطوعين لفحص الأشعة وكان القرار النهائي.... يجب المتابعة حتى الصباح و كنت من المدافعين بحماس حتى يبقى تحت الملاحظة للاطمئنان عليه..
أخرجنا كل من كان بالغرفة وبقينا أنا وزميلي وأقارب الرجل ومدير حملته والطبيب الخاص به بالقسم وهدأ المكان وتبادلنا أطراف الحديث بعد الاطمئنان على نوم مريضنا..
كانت ليلة طويلة أضاءت افكارا كثيرة في رأسي.
   مفارقة غريبة أن من سرق البلد وقتل أهلها وباع ثرواتها لأعدائها يمكث الآن غير بعيد تحت رعاية على أعلى المستويات بأعلى تكاليف و على نفقة الدولة...بينما هذا الرجل يرقد هنا في مشفى عام  وبدون حراسة منظمة!!.. حيث كان يجب علي أن أنسق مع معاونيه وأمن المشفى لتأمين القسم ومنع دخول غرباء..!!

 حتى رئيس النيابة الذي جاء للتحقيق لم يترك أفراد شرطه او حتي سيارة "بوكس" فاضيه لتأمين المكان!!
 الحقيقه لم أشعر أن الشرطه تقوم بأكثر من عرض تقليدى....show”" يعني... بدون اهتمام حقيقي..
و كأن لسان حالهم يستكثر علي الرجل أن يكون في هذا المنصب المرجو له !!
 شعور ليس معه أدلة ولكني لم استطع التخلص منه...

مع خيوط الفجر الأولي كانت إحدى الفضائيات و رجال الإعلام علي أبواب قسم الرعايه....
في الصباح أعدنا الأشعه علي ضيفنا لنطمئن عليه و نعدّه للخروج...حيث استيقظ هو من الفجر و ألحّ علي الخروج.

 و في تمام العاشره و النصف غادر د. عبد المنعم ابو الفتوح مرشح الرئاسه ل(مصر ما بعد الثورة) المشفي في سيارة إسعاف ليعود الى منزله تاركا لي خلفه علامات استفهام كثيرة...!!!

                  طبيب الاستقبال و الطوارئ ليلة الجمعه 24/2/2012  الامير حسني

للتواصل مع الكاتب على موقع التواصل الاجتماعى فضلا اتبع الرابط
المكتوب ملكية فكرية لكاتبه فقط ، و لا يجوز نقله أو اقتباسه دون إذنه ، و تم نشره بناءا على إذن من الكاتب.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق