هى طفلة لم تتخط بعد عصر التفتح و الازدهار ، ضن عليها القدر برفيق تأنس به ، فظلت وحيدة أبويها تعيش فى كنفهما عيشة العزلة و الانفراد.
دنياها التى ألفتها : عم كسيح قيد الشلل أوصاله ، لا مشغلة له فى يومه الأطول إلا الشكاية و السخط ، و عمة اغتالت المنية عائلها فخلت لطفلة أخيها ترعاها فى صرامة و حزم ، فما لبثت أن فترت صلات الطفلة بعمتها لما تلقاه على يديها من شدة و عنت.
و كانت الطفلة تلقى فى الحين بعد الحين خالة لها عقيما لم تكتحل عيناها بمولود بعد ، فصبرت على حرمانها تمنى النفس حتى تبدت فى سمائها تلك الطفلة ، فحومت حولها تحويم الحمام على فرخه الصغير.
لم يكن مستغربا من الخالة أن تبسط لابنة أختها جناح حنانها كلما قدمت لزيارتها ،
و لم يكن من المستغرب من الطفلة أن تسعى إلى خالتها تطلب عندها الحنان و السلوى ، فما جمعتهما جلسة مشتركة إلا ارتدت بالخالة السن فتبدو و كأنها صبية لها ما للصغار من خصال ، و فيها ما فيهم من مرح و نزق.
و استقر فى ذهن الطفلة أن خالتها ما هى إلا خدين تلعب معه و تسمر ، إذ كان من المحظور عليها أن تشارك لداتها من صغار الحى الانطلاق و المراح ، فقد أزمع والدها أن ينشئها تنشئة طابعها جد و اتزان.
لا غرو أن تنبت بين الخالة و ابنة أختها أواصر ألفة سرعان ما تطورت فأضحت حبا عارما يحمله كلاهما لصاحبته دون مواربة أو خفاء.
و اعتادت الطفلة كلما باعدت شواغل الحياة بينها و بين خالتها أن تجلس إلى الهاتف تناجيها فى ثرثرة موصولة ، و تنمق لها لوحا يستوعب كل ما وقع لها من حوادث و مغامرات ، فتظفر من خالتها على متن الأثير بالمديح و الإطراء فى حديث مؤنس ترصعه نكات و دعابات.
و يوما أسر إليها الهاتف بنبأ أزعجها.
ذلك أن خالتها حليفة الفراش مقيدة إليه بأمر الطبيب.
و فى حجرة المريضة وقفت الطفلة على سر المرض ، و هى تنصت لصوت خالتها يترنم بقولها ، و قد التمع وجهها فى بشاشة و إشراق :
عما قريب يكون لك رفيق تمرحين معه و تلعبين.
و انطلقت الطفلة تسأل و قد أثار قول خالتها فضولها :
متى يكون ذلك ... أفى غد أظفر به ؟
- لا يا حبيبتى ... بعد بضعة اشهر.
- أيمكننى أن أراه ؟
- لم يحن الوقت بعد.
- و أين هو الآن ؟
فأومأت الخالة إلى جنبيها تقول و قد التمعت عيناها و تورد خداها من اعتزاز و زهو:
هنا.
و امتدت يد الطفلة إلى خالتها تتحسسها فى رفق و تهيب.
و ابتسمت الخالة تسألها :
ماذا تريدين أن يكون المولود ... بنتا أم غلاما ؟
- بنتا ... نعم بنتا.
و اتفقا فيما بينهما على نوع المولود دون أن تبدى الخالة أى تمنع أو اعتراض.
فليكن ما يكون ... المهم أن تظفر الحامل بمولود تسعد به و تستبشر.
و يوما دلفت الطفلة لخالتها تحمل بين يديها صرة صغيرة ، تقربها من سرير الخالة تفك عقدها و هى تشقشق بقولها :
هاك بعض الملابس ... خطتها بيدى.
و أنشأت تعرض على خالتها مزقا هينة لا تصلح لبوسا إلا للعرائس و الدمى.
لم تتمالك الخالة إلا أن تحتضن الطفلة تطبع على خدها قبلة حافلة و لسانها لا ينفك يرطب مسامع الطفلة بكلمات التشجيع و الإعجاب.
و تصرمت أيام.
و جاءتها الطفلة تزورها على المألوف ، و ما استقرت بجانب خالتها على السرير ، حتى دست يدها فى يدها تقول :
هاك خمسة قروش ... هدية للمولود.
فابتسمت الخالة ابتسامة ساطعة ، ثم احتضنت الطفلة تقبلها فى شوق مزيد.
و قهقهت الأقدار و هى تضرم النار فى ذلك الحلم السعيد ، فما نشب أن تناثر رماده فى الفضاء.
أجهضت الخالة.
و تبين للطفلة من أمشاج الحديث أن أمنيتها قد خنقت فى مهدها ، و قد غيبتها الأقدار فى عالم بعيد المنال ... فى جب سحيق تسد فوهته جنادل صماء.
و منذ ذلك الحين حبست الطفلة لسانها لا تجريه بذكرى ذلك الأمل المفقود.
و طويت أسابيع.
و طويت أسابيع.
و كانت الطفلة جالسة تثرثر لخالتها ثرثرتها الأنيسة.
و على حين بغتة كفت عن الكلام ، و واجهت خالتها تهمس لها بما كان يشغل بالها و يمض خاطرها:
أين الخمسة قروش ... لم تعد لك حاجة بها !
و أحست الخالة بطعنة تنفذ فى أعماقها ، و لكنها كظمت ألمها ، و قامت متثاقلة إلى حجرة نومها ، تستخرج من صوان الملابس صرة المزق و كانت النقود بينها ، فأخذتها و عادت للطفلة و هى تجتلب لفمها بسمة متكلفة و تقول :
هاك النقود يا حبيبتى ... تستطيعين أن تبتاعى بها ما ترغبين فيه من حلوى.
هاك النقود يا حبيبتى ... تستطيعين أن تبتاعى بها ما ترغبين فيه من حلوى.
و وثبت الطفلة إلى الباب خارجة و هى تتمثل ما سيقع عليه اختيارها لتشتريه ، على حين انكفأت الخالة على وسادتها تلوذ بها لتخفى فى طياتها عينا تحيرت فيها الدموع.
للكاتب أحمد قؤاد تيمور من مجموعته القصصية : أعترف إليك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق