Powered By Blogger

الاثنين، 18 يوليو 2011

سنوات عشناها محمد عبد الحليم عبد الله

لم تنم المدينة تلك الليلة.
كل بيت فيها بات يفحص ذكرياته و يستعيد حادثة أو حوادث يشارك فى أقرب فرد إليه بعض ما يفكر فيه. و قد يقوم إلى النافذة فيلقى نظرة على البحر.
و ارتفع القمر الوليد على الأفق الغربى بعد غياب الشمس و ابتسم للمدينة ساعتين أو أكثر ثم هبط . و ظل الناس ساهرين.
كل منهم يريد أن يخرج إلى الشارع بعد مشرق الشمس مباشرة ليرى ما عسى أن يكون شكل هذا النهار. هل سيكون كبقية الأيام ترتفع رأسه على الأفق فى سكون طبيعى بلا جلبة و لا ضوضاء أم أن له طريقة أخرى ؟ مما لا شك فيه أن الكواكب ستؤدى عملها بطريقتها التى لا تتغير. لكن الناس هم الذين تغيروا.
و كان الحاج أمين راقدا فى فراشه فى المسكن الصغير من الحى الشعبى فى المدينة تجلس عند قدميه على نفس الفراش زوجته الحاجة "نفيسة" و قد ثقل رأسها تحت ضغط الأفكار.لعل الرجل فى ساعاته الأخيرة. إنه يعانى أمراض الشيخوخة منذ ثلاثة أعوام. تحملها ماشيا ثم تحملها راقدا . ثم ناء بالحمل فلم يعد يحتملها حتى و هو راقد ..
و ارتاعت الزوجة لفكرة أن زوجها سيرحل و يسبقها إلى العالم الثانى فتظل هى وحيدة. حقيقة أن لها ولدين أحدهما فى القاهرة و هو الكبير ، و لكنه عاق لا يسأل ، و ها هوذا أبوه يحتضر لكنه لم يأت بعد ، و الثانى يقيم معهم فى المدينة فى مسكن قريب فى آخر الحارة. أما بنتها فقد أدركها الترمل من أربع سنوات تماما.
و أطرقت الزوجة و مدت يدها تتحسس أقدام الحاج أمين تحت الغطاء الخفيف فى الجو الحار ، و أخذت تدلك القدم لتعيد شيئا من النشاط  إلى الجسم المتعب.
و ارتفعت فى هذه الحالة أصوات ضجيج عال تشوبه ضحكات من المواطنين الذين لم يناموا ، فاستفاق الحاج أمين قليلا و أدار رأسه نحو الشباك المفتوح الذى يدخل عليه  نسيم البحر فلا يجد ما يحركه من الستائر، ثم نظر إلى زوجته و على شفتيه ظل ابتسامة قائلا :
- آ ... أظن أن الناس لن يناموا هذه الليلة !!
لكنها ردت بشفقة و قلق:
- و أنت يا حاج امين ... هل نمت ؟
و أغمض عينيه كأنه نائم ، كان فى الحقيقة يستعيد ذكرياته كما يفعل كل فرد فى هذه المدينة .. يوم خرج بعد مطلع الشمس معتمدا على الله ليفتح دكانه ، و ودعته على السلم زوجته "نفيسة" و ابنته المتزوجة التى جاءت إليه بعد مقتل زوجها ، كانت فى ثياب الحداد واقفة على رأس السلم و على كتفها رضيعة و فى عينيها دموع و دعت لأبيها بالسلامة فهو يدور مع منحنى السلم فى ذلك الوقت الذى عادت فيه أمها و دخلت إلى الصالة.
إن الحاج أمين لم يكن ذاهبا إلا .. ليفتح دكان البقالة .. و لكن الواقع الغريب أنه لم يكن هناك فرق كبير بين عمله هذا و عمل الذاهب إلى ميدان القتال ، و هو بعد ذلك رجل فى الخامسة و الستين ضعيف مكدود ، تهالك فيه كل شيىء بفعل الزمن إلا قلبه ، فإنه كان قويا من نفحة الإيمان التى غمرته.
و فى بورسعيد يومئذ وقعت أعمال كثيرة . بث المصريون الذين يقاتلون الأنجليز فى قلوب أعدائهم رعبا غريبا. جعلهم طول الليل يطلقون رصاصهم على الأشباح فى الوقت الذى كان الفدائيون فيه يتسللون إلى معسكراتهم فيصنعون العجائب. و تهتز المدينة الصغيرة على انفجار كبير.
و بعد أن يخيم الصمت و يلتئم صدع الظلام الذى شقه الحريق ، يعود رصاصهم المذعور يدوى فى ظلمة الليل .. آحادا و جماعات.
و توقفت أفكار الحاج أمين لأن ضجيج الجمهور الثمل بالفرحة عاد فارتفع ، و كأنما نسى الحاج أمين الزمان و المكان فسأل زوجته "نفيسة" التى كانت تدلك له قدميه :
- هيه .. و ماذا أيضا ؟

- الناس .. نفس الناس الذين تحدثت عنهم ، هل نمت يا حاج أمين ؟
و ابتسم لها و سكت . و دخل عالمه من جديد . و جاس خلاله فى متاهات و ظلمات حتى عاد تفكيره إلى منطقة النور مرة اخرى.
كان الأنجليز فى ذلك الوقت من سنة 1952 مؤمنين بأنهم يقاتلون "ظواهر الطبيعة" .. لقد قاتلوا المصريين قبل ذلك فلم يروا فيهم هذه القوة.

و حجز  التجار عنهم المؤونة و ترك العمال لهم مصانعهم ، و كلما استبد بهم الجوع نزلوا إلى المدينة فى هيئة عصابات مسلحة تسطو على المتاجر المفتوحة فتنهبها تحت السلاح.
و فى اليوم الذى نزل فيه الحاج أمين ليفتح دكان البقالة ، و ابنته تودعه على السلم و تذكر مقتل زوجها فى أحد أعمال الفدائيين ، التقى الحاج أمين بالقدر مع أحدى العصابات المسلحة.
تزاحم الأهلون على باب الدكان يشترون مطالب يومهم فى اقصر مدة قبل أن يقفل دكانه و يعود بسلام ، و لكن سيارة جيب وقفت على مقربة منهم و هبط منها ثلاثة من الجنود . و زحفوا بانتظام عسكرى رائع إلى دكان بقالة الحاج أمين ، و لم يتفرق الناس بل ظلوا واقفين ، و نظر الشيخ المسن إلى علب السردين و المربى و التونة و هى تعبأ فى الأكياس و ظلله الوجوم فترة وجيزة ، و المواطنون العزل ليس فى ايديهم ما يدفعون به " الحديد" اللهم إلا نظرات كانوا يتبادلونها كلها استفسار و استصغار.
و و قف التاجر مذعورا فى وسط الدكان و فى يده سكينة الحلاوة ، و قلب نصلها و نظر فيها و واراها بين ثيابه ثم فكر ..
هل يطعن واحدا منهم ؟
و أتاه الجواب الصريح الواضح بنفس السرعة التى تنهب بها الأشياء من دكانه ، و هو أن ألف  رصاصة ستمزق أحشاء كل الواقفين و هو فى أولهم ..
فوضع السكين على أقرب رف و انخرط يضحك .. و كان ضحكا غريبا اغرورقت له عيناه .. و أجابه بعض الأهلين بالضحك و أجابه بعضهم بالبكاء ، و لما استمر فى الضحك و تقليب كفيه فهم الناهبون مغزى ضحكه .. إنه ضحك هستيرى ما فى ذلك شك .. أليست هذه العلب و السلع و السجاير و الأرغفة مال أسرة -قد تكون كبيرة- تأكل من ربحه ؟
فأخذتهم الشفقة لأنه عجوز .. لقد تجاوز حدود الأدب حقيقة بضحكاته تلك و لكن لا داعى لقتله .. إنه قتيل بلا رصاص فلا داعى للإجهاز عليه ، و خفت العقوبة إلى ضربه .. قنبلة يدوية هى عبارة عن علبة من علب المربى قذفت بها يد أحد الجنود فى وجه الحاج أمين فاستقرت على عينه اليمنى ..
و علا ضجيج الناس فى الشارع ، و حمل الليل صوت احد المواطنين غناء من تأليفه و تلحينه " مع السلامة يا واكلنى .. مع السلامة يا شاربنى .. مع السلامة .. ألف سلامة .. "
و مرة ثالثة سأل الحاج أمين:
- آه .. ما هذا الضجيج ؟ إن الناس لن يناموا هذه الليلة.
فأجابت زوجته فى وله :
- و أنت !؟ هل نمت .. ؟!
و عادت تدلك قدميه فى حركة آلية غير واعية و لا مرتبة .. و ابتسم الحاج أمين و و ضع يده على عينه اليمنى. نعم عينه اليمنى ..
ثم نظر إلى زوجته بعينه اليسرى ثم عاد إلى أحلامه ، و دخل فى المتاهات و الظلمات  ثم ما لبث تيار أفكاره أن تدفق فى النور :
آه .. و منذ ذلك التاريخ و هو بعين واحدة ، لقد أخذت المقاومة أحدى عينيه ، و أخذت زوج ابنته ، و أخذت معظم رأس ماله.
و أخذت الأيام تمر و هو راقد تحت العلاج لا يدرى ماذا صنع الله به ، و لكن عينه التى بقيت له رأت كفاحا أقوى من الذى فقد فيه عينه ، فحققت له أمنية كان يدعو بها عقب كل صلاة هى أن يرى هؤلاء الطغاة و هم يرحلون عن أرض وطنه . بعينه الواحدة !! 
و بكى الحاج أمين يومئذ و هو جالس على حصيرة الصلاة  .. و نزلت الدموع من عينه اليسرى !! و تصور أنه سيرى خوذات و جنودا يتجهون إلى البحر .. ظهورهم إلى مصر و الشعب من ورائهم فرحان يهلل ، فقال فى نفسه :
- لآه لو رأيت هذا بعينى التى بقيت لى لاستطعت بعد ذلك أن أرى بها الشاطىء الثانى و أنا واقف فى المينا.
و تقدمت خطى الليل و كانت الغيبوبة تتثاقل على الحاج أمين شيئا فشيئا ، و امرأته تدلك رجليه و هو لا يحس بكفها ، و أخيرا دخل ابنه عائدا من القاهرة فى القطار الأخير .. و تنبه له أبوه و قال له:
- هل جئت يا بنى ؟! .. حمد لله على السلامة .. هل أنت الذى كنت تغنى ؟

كان الصوت ينبعث منذ قليل فى أذنيه بحيث لا يعرف مصدره " مع السلامة يا واكلنى .. مع السلامة يا شاربنى .. مع السلامة .. ألف سلامة !!"
 لكنها أومأت له !!
و عادت اليقظة فدبت فى أوصال الحاج أمين إلى فترة وجيزة . قال و هو بكامل وعيه و أعز قواه:
- كم الساعة الآن ؟ آه .. لا يزال الوقت مبكرا .. إذا طلع النهار .. فإنى .. سأرى رحيل الأنجليز بعينى الواحدة .. هذه .. هذه ..!! و أشار إليها بسبابته كأنما ليؤكد شيئا مشكوكا فيه.

ثم سأل :
- و أين سليمان ابنى ؟
- آت حالا.
و لم يشاءوا أن يقولوا له أن زوجته فى عسر ، لأنها تعانى آلام المخاض .. إنها تلد.
و دخل الحاج أمين فى عالمه الغامض مرة أخرى ، و ثقل رأس زوجته جدا و أطرقت جدا و هى تدلك له قدميه ، ثم كفت فجأة ، و نظر الرجل و طلب منهم أن يفتحوا الشباك  بإشارة من يده .. و الشباك مفتوح.
و أخيرا انصب الغناء فى أذنه " مع السلامة .. مع السلامة "
و كان الصوت يبعد و يبعد حتى صار صدى ، ثم انقطع الصدى.
و أشرقت شمس اليوم التالى فارتفع الضجيج فى الشوارع ، كانت مدينة بورسعيد هى الثغر الوحيد الذى لقى هذا الشرف. جلا عنه آخر جندى أجنبى فأعلنت الحكومة نظافة الأرض ..
لكن الحاج أمين لم يشهد هذا الصباح و ان شمّ نسيم الحرية قبل أن يموت ، و كان جميلا أن يراه كما تمنى .. و لكن المهم أن مصر قد رأته ، و هذا هو القانون !!
فى ذلك اليوم فتح اثنان من موظفى الدولة  سجلين ، كل واحد منهما فتح سجلا و كتب ما يلى :
الاسم : أمين العبد
تاريخ الوفاة 13 يونيو سنة 1956
و كتب الآخر :
اسم المولود : منصور سليمان أمين
تاريخ الميلاد 13 يونيو سنة 1956
و ابتسم الموظف بعد أن فرغ من الكتابة و نظر إلى شجرة خضراء و قال:
" ولد مع مولد الحرية .. هنيئا له .. إنه من جيل محظوظ "
و لو كان هذان الموظفان جالسين على مكتبين متجاورين لأدركا فورا ان هذين الحادثين وقعا لأسرة واحدة ، تسكن حارة واحدة ، و أن الدمع و الابتسامة كانا من حظها ، و أنها شهدت آخر الليل و أول النهار ، و أن هذا الميلاد لم يكن ميلاد طفل واحد ، لكنه ميلاد وطن.

من هو الكاتب محمد عبد الحليم عبد الله ؟ فضلا اضغط الرابط 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق